فى ليلة شتوية يجمد فيها الصقيع العظام، أذكر جيدا كيف أنستنى مسرحية «مسافر ليل» لصلاح عبدالصبور برودة شتاء القاهرة، فأن تستمتع بحضور الفنانين وتتفاعل مع المشاعر والمواقف التى يمرون بها، فتسمو خلال تلك الدقائق التى تقضيها بالمسرح متوحدا مع الدراما وتصل إلى حالة من التطهر الروحى هو أمر يتفرد به المسرح ولا يغنى عنه أى فن آخر، حتى مع وجود تجربة المشاهدة «المتوحدة» مع الشاشات كشبكات البث التلفزيوني «نتفليكس»، أو «هولو» أو «سكاي» أو غيرها!!.
المسرح هو سلطان الفنون، فقد كان المسرح من أقدم أدوات الاتصال الجماهيرى منذ زمن الفراعنة والإغريق والرومان. وقد نشأ فى محراب المعابد الدينية ويشهد ازدهاره على بزوغ الحضارات.
المسرح كان ولا يزال يتسم بتداخل الثقافات والفنون كما رأى فاجنر، وليس أهم من احتفالية اليوم العالمى للمسرح التى تحتفى بـ«أبوالفنون» فى يوم 27 مارس من كل عام، هذا العام دعا المعهد الدولى للمسرح (ITI) فى باريس الكاتب المسرحى الباكستانى شهيد نديم لكتابة كلمة اليوم العالمى للمسرح 2020، ويلقى نديم الكلمة فى مقر اليونسكو بباريس، وتترجم الرسالة إلى 60 لغة، وستتم قراءتها فى 100 دولة من الدول الأعضاء.
وقد سعدت بتلقى رسالة الصديق العزيز الفنان السعودى سامى الزهراني، أمين عام مكتب الهيئة الدولية للمسرح بالسعودية، الذى قام بترجمة رسالة شهيد نديم لليوم العالمى للمسرح 2020 والتى تحمل عنوان: «المسرح المزار» والتى أرغب فى أن أشارك معكم أجزاء منها لأهميتها وتسلطيها الضوء على قوة فن المسرح:
(الأوقات السيئة هى وقت جيد للمسرح) هذه المقولة نذكرها أحيانًا عندما تشتد المصاعب، عدد لا محدود من الصعاب نواجهها، تناقضات يجب الكشف عنها، وضعنا الراهن نتعرض فيه للتدمير، كل هذه الأمور كونت حبلًا مشدودًا بين طرفين لا نزال أنا وفريقى المسرحى «أجوكا» منذ 36 عامًا نحاول التوازن والعبور من عليه. هذا الحبل المشدود جعلنا نوازن بين الترفيه والتعليم، التعلم من الماضى والإعداد للمستقبل، التعبير الحر الإبداعى والمغامرة بالتعبير ضد السلطة، المسرح الاجتماعى الناقد والمسرح الربحي، الوصول إلى الجمهور وكيف تصبح طليعيًا..».
يتابع نديم كلمته بسرد تفاصيل عن مسرحية قامت فرقته بإنتاجها عام 1980 ويروى فيها تجاربه مع شرائح من الجماهير الذين مسهم العرض وتوحدوا معه على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم الدينية، ليصل إلى دور المسرح فى انتزاع التعصب والتطرف من قلوب الجماهير. كانت المسرحية عن الشاعر الصوفى (بُلهى شاه) الذى عاش قبل ٣٠٠ عام، يقول: «حياة (بُلهى شاه) الذى يصنف من شعراء البنجاب الذين كانوا ضد سلطة الأباطرة الجائرة والديماغوجية الدينية بلا خوف، صراعاته الحياتية لغته البسيطة الشعبية شعره الذى ينبض بتطلعات الشعب دفعتنى لكتابة نص مسرحى عن هذا الشاعر...وصادف عرض المسرحية الأول تجمعًا لمجموعة من السيخ الهنود لحضور مؤتمر عن البنجاب، فتسللت هذه المجموعة لمشاهدة المسرحية بعد النهاية صعدت المجموعة لعناق وتقبيل الممثلين على خشبة المسرح وسط نوبة من البكاء؛ فقد كان الشاعر (بُلهى شاه) عزيزًا على السيخ كما هو عند المسلمين البنجاب، أعتبر هذا الموقف أول مشاركة مسرحية ولقاء ما بين السيخ والمسلمين بعد تقسيم الهند عام 1947م، الذى نتج عنه تقسيم إقليم البنجاب ما بين الهند والباكستان تجاوزوا به كل الانقسامات الدينية والطائفية.
استمرت المسرحية فى عروضها فى الهند فى ظل التوترات ما بين الباكستان والهند وإغلاق كل أبواب الحوار مابين البلدين، فُتحت أبواب القاعات المسرحية وقلوب الشعب الهندى على مصراعيها لمسرحية (بُلهي)..
فى أحد عروض المسرحية فى مناطق البنجاب الهندية الريفية تقدم رجل عجوز نحو الممثل الرئيس لدور الشاعر(بُلهى شاه) فى المسرحية يرافقه حفيده المريض وطلب من الممثل أن يدعو للطفل بالشفاء، تنحى الممثل جانبًا وقال له «باباجي» يا أبى أنا لست (بُلهى شاه) أنا فقط ممثل! بكى الرجل وأصر على الممثل أن يدعو للطفل بالشفاء وقال له أثق أنك إذا دعوت له سوف يشفى، أشرنا جميعًا للممثل أن يقوم بالدعاء للطفل لتحقيق أمنية الرجل العجوز، قام الممثل بالدعاء للطفل بالشفاء وقبل أن يخرج الرجل العجوز التفت صوب الممثل وقال له «يا ابنى انت لست ممثلًا أنت تجسد الشاعر العظيم بُلهى شاه» بعد هذه المقولة من هذا الرجل العجوز تكون لدينا مفهوم جديد عن الأداء المسرحى من خلال الدراسة الواعية لتأريخ الشخصية المسرحية التى سوف يقوم بتجسيدها الممثل أو الممثلة فى الفريق المسرحي، لاحظنا خلال رحلتنا لعرض مسرحية (بُلهي) التى استمرت 18 عامًا ردود فعل مشابهه لردة فعل الرجل العجوز عند جمهور العامة من الناس، فالأداء المسرحى ليس فقط تجربة مسلية أو محفزة فكريًا بل هو لقاء روحى ما بين الممثل والجمهور.. وقد تأثر أحد العلماء فى الهند بالعرض فوضع عنونًا له «عندما يصبح المسرح مزارا».
هناك العديد من القصص المشابهة لقصة الشاعر (بُلهى شاه) فى مختلف الثقافات حول العالم تنتظر الاكتشاف والبحث لتكون جسرًا بيننا نحن المسرحيين وبين الجمهور المتحمس لهذه القصص فهو جمهور غير معروف بالنسبة لنا، معًا يمكننا أن نكتشف الجوانب الروحية فى المسرح وبناء جسور ما بين الماضى والحاضر تقودنا للمستقبل تقودنا إلى مصير المجتمعات التى تتكون من المؤمنين وغير المؤمنين، الممثلين وكبار السن، والأحفاد.
عالمنا اليوم يكثر فيه التعصب، الكراهية، العنف، الأمم تحرض بعضها على بعض، المؤمنون يقاتلون المؤمنين، المجتمعات تبث الكراهية، الأطفال يموتون من سوء التغذية، الأمهات يمتن أثناء الولادة بسبب عدم وجود رعاية طبية جيدة، أيديولوجية الكراهية تزيد وتزدهر.
كوكبنا اليوم يغرق أكثر وأكثر تحت مناخ كارثى من الحروب، المجاعات، الموت، كل هذا يحدث صمتًا رهيبًا تستطيع من خلاله أن تسمع وقع حوافر خيول الفرسان الأربعة فى الطرف الآخر من العالم هذا ينبئ بالفعل بنهاية العالم، نحن بحاجة فى هذه الأيام لتجديد قوتنا الروحية نحن بحاجة لمحاربة اللامبالاة، الخمول، التشاؤم، الجشع، محاربة من يتجاهل الكوكب الذى نعيش عليه.
للمسرح دور نبيل من خلال إعطاء مساحة الأداء والاهتمام بقيمة خشبة المسرح والسعى لتحويلها لخشبة مقدسة تعطى طاقة، حيوية، تعبئة بشرية لعدم السقوط فى الهاوية، أخيرًا المسرح لديه القدرة ليتحول إلى مزار للأداء الروحي.