أغادر مصر الحبيبة بعد زيارة خاطفة وكأنه فراق الحبيب لحبيبته. فمصر تمنحنى دائمًا السعادة والدفء وأنا أعطيها من قلبى بعض الأمل فى مستقبل أفضل وأسعى معها وبها لذلك. أتركها وكلى حزن وتفاؤل! الحزن مصدره جيل عاش للأسف على النفاق والخداع والفساد ولم يكن كذلك فى بداياته ولكن جشع المال وسطوته أصاب النفوس ودمرها. ومن المؤسف أن يكون من هذا الجيل طبقات لم أكن أتصور أن تبتليها هذه الأمراض كبعض الأطباء ومنهم للأسف الشديد القليل من أساتذة الجامعات. فهم أناس نحوا العلم جانبًا وتفرغوا فقط لجنى الثمار. لم أكن أتصور أسلوب بعضهم فى التعامل مع شركات الدواء والتورط فى آفة تبادل المصالح وفساد المال. ولقد رأيت بعينى وسمعت بأذنى قصصًا يدمى لها الجبين وهو ما يحتاج وقفة حاسمة وفورية من وزارة التعليم العالى ووزارة الصحة ومجلس النواب لوقف هذا الفساد. ففى الولايات المتحدة يوجد قانون الشمس الساطعة Sunshine Act والذى يحكم العلاقة بين الطبيب وشركات الدواء. فلو تناولت كطبيب ساندويتشًا بخمسة دولارات على حساب شركة دواء لأُجبرت الشركة بموجب القانون على الإعلان عن ذلك وذكرته أيضًا مُجبرة على الإنترنت ليراه كل إنسان يتعامل مع هذا الطبيب درءًا لتعارض المصالح. ولكن للأسف عندنا تعارض المصالح هو الأساس وتبادل المنفعة هو العرف. فهذا طبيب يكتب دواء لشركة دواء مقابل منفعة شخصية أو مالية دون اعتبار لمصلحة المريض! وذاك ينظم مؤتمرًا وهميًا - وما أكثرها الآن فى مصر- ليتقاسم الأموال التى تمولها الشركات لهذه المؤتمرات مع مسهل التمويل من داخل الشركة نفسها وغير ذلك الكثير والكثير مما يندى له الجبين وتُزكم به الأنوف. وما كنت لأتكلم مطلقًا فى هذا الموضوع الشائك والحساس حتى شاهدت ذلك بعينى وسمعته بأذني. وأكرر ثانية أنهم حفنة قليلة شاذة تلوث الشرفاء من الأطباء وأساتذة الجامعات، وأتمنى من كل قلبى أن تلفظها الجامعات دون رحمة كما أتمنى أن يفتح تحقيق فى هذا الأمر من الرقابة الإدارية ليقف هؤلاء من الجانبين عند حدهم. وربما يجب أن يصدر مجلس النواب قانونًا ينظم العلاقة بين شركات الدواء والأطباء لوقف هذا السيل عند حده. لقد قررت إرسال طلب للشئون القانونية لبعض الشركات العالمية والعاملة فى مصر لفضح هذا الفساد والتحقيق فيه وأطالب من لديه معلومات عن هذا الشأن أن يتقدم بها حتى ينظف هذا المجتمع من بعض جراثيمة.
ولقد كنت لا أدرك هذه الشبكة العنكبوتية حتى قمنا مؤخرًا بالتجهيز لمؤتمر الجمعية الأمريكية للسكر بالقاهرة وهو مؤتمر علمى بحت وعلى أعلى مستوى عالمي، كما أنه حدث طبى وعلمى ليس له سابقة من قبل فى مصر. وعادة ما تمول شركات الدواء تكلفة هذه المؤتمرات من خلال الحصول على مكان فيه لعرض منتجاتها على جانب المؤتمر وهو عرف موجود ومقنن فى جميع أنحاء العالم. ولكن لفت نظرى عرض إحدى الشركات العالمية الكبيرة والعاملة بمصر المساهمة فى المؤتمر بمبلغ متواضع جدًا بالنسبة لحجم الشركة وحجم المؤتمر! فإذا بى أكتشف أن نفس الشركة مولت مؤخرًا مؤتمرًا محليًا لأحد أساتذة الأقاليم بأكثر من عشرين ضعف هذا المبلغ! وهذا ما أثار فضولى لمعرفة الحقيقة لأكتشف حقائق يندى لها الجبين. والمؤسف أن هذا الطبيب وغيره من منتفعى ومحترفى المؤتمرات الطبية قد داروا على شركات الأدوية لحثهم على الامتناع عن مساندة هذا المؤتمر العالمى الهام والذى كتبت عنه الصحافة الطبية الأمريكية وأرسلت مراسليها لتغطيته. ووصل الأمر ببعضهم لتهديد هذه الشركات علنيًا بمحاربة منتجاتهم إذا شاركوا فى هذا المؤتمر. فهؤلاء يدركون بذكاء أن مؤتمرًا علميًا بهذا الحجم والقدر سيقطع عليهم مستقبلًا فرص «السبوبة» التى عاشوا عليها سنين. لأعرف لاحقًا أنه ليس طبيبًا واحدًا ولكن مثله للأسف الشديد العشرات من الأطباء بالجامعات المصرية وليس مؤتمرًا واحدًا ولكن للأسف أيضًا عشرات المؤتمرات السنوية التى تعقد لغرض التربح. ولقد أكد لى الأمر العديد من الأصدقاء من أساتذة الجامعات المصرية. فالشركة تدفع أموالًا خرافية لمؤتمرات لا قيمة لها ليتقاسمها منظم المؤتمر مع مسهل التمويل من داخل الشركة وذلك بعد دفع القليل لتنظيم المؤتمر. لقد أعددت تقريرًا سيقدم للشئون القانوية لهذه الشركة وغيرها من الشركات الضالعة فى هذه العمليات المشبوهة للتحقيق وهم كُثُر. ولكن وقف الفساد تمامًا لن يتم سوى من الداخل من خلال أقسام مكافحة الفساد بالأجهزة الرقابية والتى يجب عليها متابعة هذه الأموال ومصادر صرفها. وأتمنى من قلبى أن أرى اليوم الذى نقتلع فيه الفساد من جذوره فوطننا لن يتقدم أبدًا وهذا السوس ينخر فى عظامه!.
أما أهم أسباب تفاؤلى فهو الشباب المصرى الواعد والنابه فلقد قابلت شبابًا رائعًا من صغار الأطباء أذهلنى بوعيه وتفكيره وأدبه فى الحوار والسلوك. شباب يعمل بإخلاص وتفان ويبهرك بقدرته على الابتكار والتجديد، ولا أملك أن أقول لهذا الشباب إلا ما قاله بلدياتى إبن المنصورة الدكتور الشاعر الحالم إبراهيم ناجى وهو يحمس شباب عصره:
أجلْ إن ذا يوم لمن يفتدى مصرا
فمصر هى المحرابُ والجنةُ الكبرى
سلامًا شباب النيل فى كل موقفٍ
على الدهر يجنى المجدَ أو يجلبُ الفخرا
فهذا الشباب يحتاج فعلًا منا للرعاية والتوجيه ليقود مسيرة مستقبل مصر إلى غد أكثر إشراقًا وجمالًا. ما هذا الشباب وأين تعلم؟ لقد قلت وما زلت أكرر إن شبابنا يحتاج منا لثلاثة «الأمل..والقدوة.. والفرصة» لينطلق بنا للأمام.. فهل نعطيهم له لينطلق؟