في السياسة هناك فرق بين الخطاب العلنى الدعائى، والتحرك على الأرض. وفى حالة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، فهو يبالغ في إطلاق تصريحات وتهديدات حول الوضع في سوريا، وهى تصريحات بهدف الاستهلاك المحلى، حيث يسعى إلى التغطية على فشل رهاناته المتوالية فيما يتعلق بالوضع في سوريا وليبيا، وهى فخاخ نصبها بنفسه. وفى حال فشله في حماية التنظيمات الإرهابية في إدلب، سوف يضاعف هذا من أزماته، كاشفا عجزه عن تنفيذ أى من وعوده أو تهديداته، خاصة وقد تلقى تجاهلا من حلفائه السابقين. فقد طلب تدخل حلف الناتو لمساندة القوات التركية في إدلب اعترافا بالهزيمة. فيما بدت تهديداته مجرد محاولة للتغطية على فشله في الملفات المختلفة.
فأردوغان اعتاد أن يطرح خطابا للاستهلاك الدعائى أمام الأتراك، يتضمن الكثير من التهديدات والصخب، مقابل خطاب سياسى في الغرف المغلقة، وهو خطاب براجماتى يتعامل مع الواقع بكل واقعية. وهذا الأمر واضح ولم يعد من الممكن إخفاؤه في ظل تدفق المعلومات.
وخلال سنوات حاول أردوغان إيهام الولايات المتحدة والغرب أنه يسعى لصالح حلف الناتو وينفذ مصالح الغرب في سوريا، وحاول إيهام السوريين أنه يساند قضية الديمقراطية والتغيير، وفى كل هذا كان يعقد اتفاقات لاستيراد وإدخال الإرهابيين من كل دول العالم إلى سوريا والعراق. بل واقتسام البترول والثروات المسروقة بواسطة داعش والنصرة. فكان يدعم الحرب بالوكالة ويدعم النزعات الطائفية والعرقية في سوريا والعراق بشكل يدعم ظهور وتقوية نفوذ داعش، التنظيم القائم على الطائفية بالأساس.
اليوم يطلق أردوغان ومعاونوه في حزب «الحرية والعدالة» خطابا تهديديا تجاه روسيا، وهو خطاب موجه إلى الداخل التركى والناخبين في محاولة لإنقاذ صورته المهزوزة والتغطية على الخسائر التى يتكبدها في سوريا وليبيا، ومقابل التهديدات العلنية يسعى الرئيس التركى خلف الأبواب للتفاوض مع روسيا.
في حين أعلنت المعارضة ممثلة في حزب «الشعب» التركى، أن أردوغان يخوض حربا بالوكالة، وأنه ينسق مع إسرائيل في عدوانها على سوريا، وأن الجنود الأتراك يدفعون ثمن مغامرات أردوغان وحزبه في سوريا وليبيا، والشعب التركى أصبح مدركا أكثر من أى وقت مضى كيف ورطهم أردوغان في مغامرات متشعبة، وأنه أصبح في وضع صعب، ويبحث عن أى صيغة تضمن له انسحابا من سوريا، حتى يخفى الخسائر بين قواته.
أردوغان لم يغير من طريقته في تقديم خطابين، بالرغم من أنه أصبح مكشوفا وفقد الكثير من حلفائه، بعد أن اكتشفوا أنه كان يلعب لمصالحه، وأنه خلق مشكلة اللاجئين والإرهابيين، التى يبتز بها الغرب. وحتى في تعامله مع القضية الفلسطينية، كان أردوغان يقدم خطابا عاطفيا حول فلسطين، بينما تركيا أكثر دولة في الشرق الأوسط لها علاقات عسكرية واقتصادية مع إسرائيل، ومع هذا فقد أردوغان أن يقدم خطابا مزدحما بالشعارات لتابعيه في تركيا ولبعض الفلسطينيين، وهو خطاب شعاراتى لا يكلف صاحبه شيئا.
أردوغان اعتاد الاستثمار في أى أزمة من الممكن أن تخدم أجندته التوسعية، ولهذا زار العاصمة الباكستانية إسلام أباد في محاولة لإنقاذ موقفه المتردى في معركة إدلب التى وضعته في مواجهة مع روسيا.
لهذا يسعى أردوغان إلى باكستان ويفرط في وعوده بمساندة إسلام أباد أمام الضغوط المالية الدولية ومساندتها في قضية كشمير، وهى وعود بقدر ما تكشف عن انتهازية التركى، لم تسفر إلا عن تصريح عابر بالوقوف مع تركيا، وهو تصريح لا يعنى مساندة الجيش التركى في إدلب؛ لأن هذا يعنى مواجهة مع روسيا وهى إحدى الدول المتعاونة مع باكستان تجاريا وعسكريا.
وفى حين اتهم أردوغان روسيا بعدم تنفيذ اتفاق سوتشى، رد السفير الروسى لدى أنقرة أليكسى يرخوف، بالقول: إن تركيا لم توف بالتزاماتها في مذكرة سوتشى وانسحاب الجماعات الإرهابية من المنطقة منزوعة السلاح في إدلب وفتح طريقى إم4، وإم 5. وقال يرخوف إن تركيا تعهدت في مذكرة سوتشى في 17 سبتمبر 2018 حول إدلب، بسحب الجماعات الإرهابية من المنطقة منزوعة السلاح ولم تفعل، مضيفًا: إذا لم تقم بتنفيذ التزاماتك، هل يحق لك أن تطالب الطرف الآخر بذلك؟ وأضاف أن الأتراك لم ينزعوا سلاح الإرهابيين. وهو ما زاد من جرأتهم وهجماتهم على مواقع الجيش السورى وقاعدة «حميميم» الروسية.
وفى مواجهة تهديدات الأتراك بإسقاط جميع الطائرات فوق إدلب، قال الباحث السياسى جيفورغ ميرزايان: «إذا أسقطت تركيا طائرة روسية فوق الأراضى السورية، فستكون هناك ضربة منظمة على جميع الجبهات، لهذا قرر أردوغان إرسال وزير خارجيته للقاء نظيره الروسى بعد أن اكتشف انتهاء صلاحية التهديدات التى أطلقها طوال أيام، بعد فشله في إنقاذ الإرهابيين».
و استطرد ميرزايان قائلا: «لقد وقعت تركيا في مصيدة سياستها.. القوات التركية موجودة في سوريا بشكل غير قانونى. ومن وجهة نظر القانون الدولى، تشكل هدفا شرعيا تماما للجيش السورى، الذى يمارس حقوقه السيادية في سور.. ويحتاج أردوغان إلى سحب قواته، لكن هذا سيكون بمثابة هزيمة تضر بشعبية أردوغان وحزبه، اللذين ليسا في حالتهما الأفضل، وكل ما يمكن أن يفعله أردوغان هو التهديد بغزو جديد، والمطالبة بدعم من الناتو. والحلف لا يجد في ميثاقه ما يدفعه لدعم غزو تركيا لسوريا. كل هذا يجعل تهديدات أردوغان مجرد تغطية على هزائمه، وإفراطه في تهديد موسكو ودمشق، ضمن خطاب دعائى لإسكات الداخل التركى تجاه ورطاته المتتالية.
وفى حين هدد أردوغان بشن عملية عسكرية جديدة في إدلب في حال لم يوقف الجيش السورى هجومه على المسلحين هناك، استبعد المحللون أن يتحرك حلف الناتو لمعاونة أردوغان، وإنقاذ الإرهابيين، حيث إن الناتو لن يغامر بالدخول في مواجهة مع روسيا، فضلا عن خلو ميثاقه من بند لدعم الغزو لدول أخرى.
ويبدو أن موسكو تدرك أبعاد تحركات أردوغان وأزمته، وتشير إلى أن صبرها قد ينفد، وقد أصدرت الخارجية الروسية بيانا ردًا على تصريحات زعيم حزب «الحركة القومية» دولت بهتشلى، أمام برلمان بلاده، ودعا فيها تركيا لمراجعة العلاقات الروسية التركية بشكل جذرى؛ حيث اعتبر البيان تلك التعليقات استفزازية.
وفى نفس الوقت أصدرت الخارجية السورية بيانا وصفت فيه تصريحات أردوغان حول سوريا وجيشها بأنها «جوفاء وفارغة وممجوجة»، ولا تصدر إلا عن «شخص منفصل عن الواقع». وأنها جاءت بعد «انهيار تنظيماته الإرهابية التى يدعمها ويسلحها ويدربها، تحت ضربات الجيش العربى السورى، وبعد انكشاف أمره ودوره كأداة للإرهاب الدولى، وقال البيان إن تواجد القوات التركية على الأراضى السورية «غير مشروع وخرق فاضح للقانون الدولى».
واشنطون بدت هى الأخرى تتخلى عن أردوغان، حيث أعلن مستشار الأمن القومى الأمريكى روبيرت أوبرايان: «لن نتدخل في إدلب لحل مشكلات لم تكن من صنعنا، ولن نرسل قوات في تلك البيئة الفوضوية «إدلب»، وقال إن أمريكا لا تنوى لعب دور شرطى العالم».
واليوم يدفع الأتراك ثمن تحالف أردوغان مع الإرهاب والحرب بالوكالة لصالح أجهزة وقوى هى نفسها تخلت عنه، وهو ما أعلنه زعيم المعارضة التركية وحزب الشعب كمال كيليجدار أوغلو، الذى هاجم أردوغان، وقال: «يجب أن يتخلى أردوغان عن دور المقاول لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، نحن لا نريد الاقتتال مع أى أحد من جيراننا، ولا نريد الدخول في حرب بالوكالة، يدفع جنودنا الثمن، لا نريد مزيدا من القتلى في صفوف جنودنا»، في إشارة إلى الخسائر المتوالية بين صفوف الجيش التركى.
المعارضة داخل تركيا أصبحت تتزايد بعد انتشار أخبار عن الضربات التى يتلقاها حلفاء أردوغان وأيضا القوات التركية التى دفع بها أردوغان لإنقاذ ما تبقى من هيبته في سوريا، فلم يعد يحظى بثقة أمريكا ولا روسيا ولا أوروبا، ولم يتبق له سوى إيران وقطر، الدوحة تمول مغامرات أردوغان بقنوات الدعاية في جهة، وإيران مع أردوغان في جهة أخرى، ضمن تحالف غامض ومتناقض، طهران تحاول كسر الحصار الأمريكى، وأردوغان يعلم علاقات إيران مع الأسد، الأمر الذى يجعل تحالفهما هشا، قابلا للانفراط في أى وقت.
كل هذه التفاصيل تضاعف من مأزق أردوغان، لكونه أصبح مكشوفا ولم يعد خطابه المزدوج صالحا، وفقدت انتهازيته صلاحيتها.