لم يكن نبوغ هذا الرجل في عالم الكتابة المسرحية ذات الطابع الكوميدي المرير؛ الذي يمنح التأثير التراجيدي الساخر في وجدان المتلقي أو المشاهد.. وليد الصدفة؛ ولا كان التزامه الأدبي ــ مع ذاته الواثقة ــ بأن تحمل إبداعاته على كتفيها عبء مشكلات وقضايا الإنسان المعاصر في صراعه الأبدي لنيل الحرية الحقيقية.. مجرد فانتازيا مظهرية لنمط الكتابة؛ ولكنها جاءت على سن قلمه بعفوية وليدة الفطرة التي التحمت مع الحبل السُّرِّي منذ ولادته من صلب أبٍ وأمٍ عاشا في ساحة النضال المجتمعي المصري والعربي من أجل الإنسان وقضاياه الفكرية التحررية. إنه الكاتب الذي حين شعر بأن أفكاره وطموحاته في إيجاد عالمه ومدينته الفاضلة صعبة المنال؛ رحل عن عالمنا متأثرًا بصراعه الطويل مع المرض وجحود الأصدقاء.. إنه عبقري المسرح المصري الحديث الشهير باسم: لينين الرملي "لينين فتحي عبد الله فكري الرملي " !
ولقد اتفقنا ضمنًا أن المبدعين لا يرحلون؛ ولكن يقومون بتغييرع ناوينهم، فما زال بيننا نجيب الريحاني، وبديع خيري، نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وآل الإبياري: اسماعيل ويسري، محفوظ عبد الرحمن، وأسامة أنورعكاشة، هؤلاء العمالقة الذين استطاعوا إعادة تشكيل الوجدان والوعي الإنساني بكل ماهو راقٍ وجاد في المجتمع؛ بما تركوه لنا من إبداعاتهم التي ملأت السمع والبصر والفؤاد طيلة أحقاب طويلة من الزمن في مجالات الفنون كافة، فقد استطاعوا أن يجعلوا من الضحك والدراما ضفيرة واحدة اتكاءً على ابتكار كوميديا الموقف، بحيث تجعل المشاهد يضحك من شدة البكاء المعنوي على حياته بما فيها من اضطرابات مجتمعية: سياسية واقتصادية وسلوكية؛ وتفجِّر في جوانحه طاقات التمرد والحزن النبيل؛ الذي يعمل على عدم الاستكانة أو الامتثال للواقع المرير المعاش؛ لينطلق إلى آفاق التغيير للأفضل وتأكيد معنى الحرية الضرورية لحياة البشرعلى الأرض، ولعله أشار إلى فلسفته تلك في جملة عابرة بإحدى مسرحياته الشهيرة حين قال عن العميان: إن العمى ليس في فقد البصر وإنما في فقدان "البصيرة؛ وهو منطق يتناص أو يتلامس مع قول الله عز وجل في سورة ( الحج46 ): ﴿ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ ؛ والإسقاط في فلسفته هنا عن هذا ( العمى ) الاعتباري الذي يتغاضى عن تغيير الواقع المؤلم، والرضا بالسير مغمض العينين والقلب تحت راية القطيع.. وهم ـ من وجهة نظره الفلسفية ــ الغالبية المستكينة الخانعة !
وليس من المستغرب على هذا الأديب الأريب؛ أن يكون إبحاره في خضم محيطات الكتابة في السينما والمسرح والتليفزيون؛ مُشرعًا سيف فلسفته في وجه الزيف والأباطيل المجتمعية؛ نابعًا من مولده في لحظة فارقة من عمر التاريخ؛ والحرب العالمية الثانية لم تكد تضع أوزارها في سبتمبر من العام 1945؛ إذ كان عمره في تلك اللحظة شهرًا واحدًا، حيث كان ميلاده في18 أغسطس 1945، ليخرج إلى العالم في كنف والده الذي يعمل بالصحافة والمهموم بتغطية أنباء الحرب والانشغال بقضية الوطن الذي يرزح تحت نير الاحتلال الإنجليزي البغيض؛ مُتشبعًا بأفكار المعسكر الاشتراكي؛ وهي الأفكار التي كانت الملجأ والملاذ ــ وقتذاك ـ ضد تغلغل الأفكار الرأسمالية البغيضة؛ وكذلك كانت والدته التي تؤمن بالأفكار المثالية نفسها؛ المتطلعة إلى العيش في ظل عالم تحكمه قيَم ْالحق والخير والجمال.. والحرية !
فكان من الطبيعي أن يتأثر وجدانيًا بهذا الجو المشبَّع بالوطنية والروح عالية الشفافية ؛ فتظهر موهبته المبكرة في التعامل مع "فعل الكتابة" الذي وهبه جُل سني حياته؛ فقد كان يجيد الكتابة منذ أن كان عمره ١٢ سنة، وكان يكتب مذكراته يوميًا ودوَّن فيها: " أريد أن أكون كاتبًا مسرحيًا"، وهو ما تحقق له بمسرحيته الأولى التى كتبها وهو في سن العشرين، عنوانها: "من قتل برعى؟"، التي حولها المخرج جلال الشرقاوى فيما بعد إلى "إنهم يقتلون الحمير"، ثم ثانى مسرحياته "انتهى الدرس يا غبي " مع الفنان محمد صبحى. وليحظى ــ بعد ذلك ــ بالشهرة الواسعة من خلال العديد من المسلسلات التليفزيونية والأفلام السينمائية والمسرحيات التي قام ببطولتها عمالقة التمثيل الكوميدي البارزين على الساحة الفنية المصرية.
ولأن حياة الفنان الذي يعيش حياته بمشاعر مرهفة ـ أو كما يقولون: على حد السكين؛ كان اختياره القدري في لقائه بشريكة حياته ــ مصادفة ـ على باب معهد الفنون المسرحية؛ بكاتبة الأطفال المبدعة "فاطمة المعدول"؛ التي تقول عنه ـ بتصرف ـ في أحد الحوارات الصحفية: "...المسرح التجريبى كان له دور مهم جدًا في حياته، وقدم خلاله تجارب كثيرة طوال قرابة ٢٠ عامًا، حتى أن «فلوسه كلها صرفها عليه»، وكان يقدم "مسرح حى" يعبر عن الاتجاهات كافة، ويتميز بالتجريب في كل شىء، على مستوى الفكر والصورة، فمثلًا «البيت الصغير» في مسرحية «الهمجى» كان موجودًا في النص الذى كتبه «لينين». وكان المسرح عامة بأنواعه جميعًا كل شىء بالنسبة لـ«لينين»، فأعطاه كل وقته وطاقته، حتى إنه كان ينفق من جيبه الخاص لإظهار المواهب وإنتاج المسرحيات...".
ولنا أن نرفع القبعة لهذه السيدة مثال الإخلاص فاطمة المعدول؛ التي شاركته رحلة حياته مؤمنة بموهبته المتفردة في عالم فلسفته؛ ولتهييء له "أجواء الكتابة"؛ ولتقف إلى جانبه وتسانده بالجهد والمال في رحلته الأخيرة مع عدو البشرية المقيت: المرض.. ولكنها الأقدار التي لاإرادة لمخلوق في درئها، وعزاؤنا الذي يُثلج القلب والروح والوجدان دائمًا؛ أن المبدعين.. لا يرحلون؛ وأعمالهم الخالدة باقية في ذاكرة كل محبي الإبداع الصادق والهادف.
ولعل أجمل العزاء لقلوبنا، هو ما تردد من ـ قبل الانتهاء من مقالي هذا واتمناها حقيقة ــ أن وزيرة الثقافة د. إيناس عبد الدايم؛ قررت إطلاق جائزة باسم " لينين الرملي" تُمنح سنويًا للأعمال المتميزة مسرحيًا، وهذا أقل تقدير لمن منحونا لحظات من المتعة والجمال والصدق.
*أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون
ولقد اتفقنا ضمنًا أن المبدعين لا يرحلون؛ ولكن يقومون بتغييرع ناوينهم، فما زال بيننا نجيب الريحاني، وبديع خيري، نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وآل الإبياري: اسماعيل ويسري، محفوظ عبد الرحمن، وأسامة أنورعكاشة، هؤلاء العمالقة الذين استطاعوا إعادة تشكيل الوجدان والوعي الإنساني بكل ماهو راقٍ وجاد في المجتمع؛ بما تركوه لنا من إبداعاتهم التي ملأت السمع والبصر والفؤاد طيلة أحقاب طويلة من الزمن في مجالات الفنون كافة، فقد استطاعوا أن يجعلوا من الضحك والدراما ضفيرة واحدة اتكاءً على ابتكار كوميديا الموقف، بحيث تجعل المشاهد يضحك من شدة البكاء المعنوي على حياته بما فيها من اضطرابات مجتمعية: سياسية واقتصادية وسلوكية؛ وتفجِّر في جوانحه طاقات التمرد والحزن النبيل؛ الذي يعمل على عدم الاستكانة أو الامتثال للواقع المرير المعاش؛ لينطلق إلى آفاق التغيير للأفضل وتأكيد معنى الحرية الضرورية لحياة البشرعلى الأرض، ولعله أشار إلى فلسفته تلك في جملة عابرة بإحدى مسرحياته الشهيرة حين قال عن العميان: إن العمى ليس في فقد البصر وإنما في فقدان "البصيرة؛ وهو منطق يتناص أو يتلامس مع قول الله عز وجل في سورة ( الحج46 ): ﴿ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ ؛ والإسقاط في فلسفته هنا عن هذا ( العمى ) الاعتباري الذي يتغاضى عن تغيير الواقع المؤلم، والرضا بالسير مغمض العينين والقلب تحت راية القطيع.. وهم ـ من وجهة نظره الفلسفية ــ الغالبية المستكينة الخانعة !
وليس من المستغرب على هذا الأديب الأريب؛ أن يكون إبحاره في خضم محيطات الكتابة في السينما والمسرح والتليفزيون؛ مُشرعًا سيف فلسفته في وجه الزيف والأباطيل المجتمعية؛ نابعًا من مولده في لحظة فارقة من عمر التاريخ؛ والحرب العالمية الثانية لم تكد تضع أوزارها في سبتمبر من العام 1945؛ إذ كان عمره في تلك اللحظة شهرًا واحدًا، حيث كان ميلاده في18 أغسطس 1945، ليخرج إلى العالم في كنف والده الذي يعمل بالصحافة والمهموم بتغطية أنباء الحرب والانشغال بقضية الوطن الذي يرزح تحت نير الاحتلال الإنجليزي البغيض؛ مُتشبعًا بأفكار المعسكر الاشتراكي؛ وهي الأفكار التي كانت الملجأ والملاذ ــ وقتذاك ـ ضد تغلغل الأفكار الرأسمالية البغيضة؛ وكذلك كانت والدته التي تؤمن بالأفكار المثالية نفسها؛ المتطلعة إلى العيش في ظل عالم تحكمه قيَم ْالحق والخير والجمال.. والحرية !
فكان من الطبيعي أن يتأثر وجدانيًا بهذا الجو المشبَّع بالوطنية والروح عالية الشفافية ؛ فتظهر موهبته المبكرة في التعامل مع "فعل الكتابة" الذي وهبه جُل سني حياته؛ فقد كان يجيد الكتابة منذ أن كان عمره ١٢ سنة، وكان يكتب مذكراته يوميًا ودوَّن فيها: " أريد أن أكون كاتبًا مسرحيًا"، وهو ما تحقق له بمسرحيته الأولى التى كتبها وهو في سن العشرين، عنوانها: "من قتل برعى؟"، التي حولها المخرج جلال الشرقاوى فيما بعد إلى "إنهم يقتلون الحمير"، ثم ثانى مسرحياته "انتهى الدرس يا غبي " مع الفنان محمد صبحى. وليحظى ــ بعد ذلك ــ بالشهرة الواسعة من خلال العديد من المسلسلات التليفزيونية والأفلام السينمائية والمسرحيات التي قام ببطولتها عمالقة التمثيل الكوميدي البارزين على الساحة الفنية المصرية.
ولأن حياة الفنان الذي يعيش حياته بمشاعر مرهفة ـ أو كما يقولون: على حد السكين؛ كان اختياره القدري في لقائه بشريكة حياته ــ مصادفة ـ على باب معهد الفنون المسرحية؛ بكاتبة الأطفال المبدعة "فاطمة المعدول"؛ التي تقول عنه ـ بتصرف ـ في أحد الحوارات الصحفية: "...المسرح التجريبى كان له دور مهم جدًا في حياته، وقدم خلاله تجارب كثيرة طوال قرابة ٢٠ عامًا، حتى أن «فلوسه كلها صرفها عليه»، وكان يقدم "مسرح حى" يعبر عن الاتجاهات كافة، ويتميز بالتجريب في كل شىء، على مستوى الفكر والصورة، فمثلًا «البيت الصغير» في مسرحية «الهمجى» كان موجودًا في النص الذى كتبه «لينين». وكان المسرح عامة بأنواعه جميعًا كل شىء بالنسبة لـ«لينين»، فأعطاه كل وقته وطاقته، حتى إنه كان ينفق من جيبه الخاص لإظهار المواهب وإنتاج المسرحيات...".
ولنا أن نرفع القبعة لهذه السيدة مثال الإخلاص فاطمة المعدول؛ التي شاركته رحلة حياته مؤمنة بموهبته المتفردة في عالم فلسفته؛ ولتهييء له "أجواء الكتابة"؛ ولتقف إلى جانبه وتسانده بالجهد والمال في رحلته الأخيرة مع عدو البشرية المقيت: المرض.. ولكنها الأقدار التي لاإرادة لمخلوق في درئها، وعزاؤنا الذي يُثلج القلب والروح والوجدان دائمًا؛ أن المبدعين.. لا يرحلون؛ وأعمالهم الخالدة باقية في ذاكرة كل محبي الإبداع الصادق والهادف.
ولعل أجمل العزاء لقلوبنا، هو ما تردد من ـ قبل الانتهاء من مقالي هذا واتمناها حقيقة ــ أن وزيرة الثقافة د. إيناس عبد الدايم؛ قررت إطلاق جائزة باسم " لينين الرملي" تُمنح سنويًا للأعمال المتميزة مسرحيًا، وهذا أقل تقدير لمن منحونا لحظات من المتعة والجمال والصدق.
*أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون