23 يوما فقط فصلت بين اندلاع أحداث الفوضى عام 2011 في كل من البلدين المتجاورين مصر وليبيا، اللذين يتمتعان بامتداد جغرافى وبشرى وثقافى واجتماعي متداخل، يجعل مقتضيات الأمن القومى لكليهما تكاد تتطابق في كثير من النواحى.
كانت الأوضاع المعيشية السيئة لملايين المواطنين الدافع وراء خروج تظاهرات الـ25 من يناير في ميدان التحرير بقلب العاصمة المصرية القاهرة، وبنى غازى في الـ17 من فبراير، وقد سبقتهما أحداث ديسمبر في تونس على خلفية مشهد قيام البوعزيزى بإحراق نفسه.
وليس بعيدا وقف تنظيم جماعة الإخوان الإرهابية يراقب الأحداث وما هى إلا أيام معدودات حتى بدأ التنظيم يشارك في التظاهرات السلمية بعناصره المحلية والخارجية القادمة من غزة، ليصنع مشاهد العنف والفوضى بهدف الإسراع بإسقاط تلك الدول، لا الأنظمة الحاكمة التى خرجت التظاهرات لمطالبتها بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية جذرية.
وعاونتها في ذلك عناصر أجهزة استخبارات أجنبية عجت بها الميادين العربية لتمكن التنظيم الإرهابى من إنفاذ مخطط الفوضى العارمة.
وفى سوريا واليمن كانت الأيام اللاحقة مشابهة لما جرى في ميادين القاهرة وبنى غازى وتونس.
هذه البدايات المتشابهة في بعض جوانبها، المتطابقة في أغلبها، اختلفت نهاياتها بحسب طبيعة كل دولة على حده، ففى مصر كان رسوخ الدولة الوطنية وتجذرها في وجدان المصريين علاوة على قوة وحضور الجيش المصرى سببا مباشرا في انكسار مشروع الإسلام السياسى برمته على أرض المحروسة بعد سلسلة أحداث متوالية انتهت باندلاع ثورة الـ30 من يونيو.
لكن وضع جارتها الغربية ليبيا كان مختلفا إلى حد بعيد بسبب طبيعة النظام السياسى للعقيد الراحل معمر القذافى الذى ورغم طول فترة حكمه التى امتدت 42 عاما لم ينجح في تأسيس سوى نواة لجيش وطنى، ما جعل أمر تدخل حلف الناتو سهلا ليقصف بطائراته مكونات تلك النواة وليفتح المجال أمام الجماعات الإرهابية للانتشار والسطو على مخازن السلاح، ومن ثم السيطرة على أغلب المدن والمناطق من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وتقسيمها كمناطق نفوذ مختلفة.
كذلك لم ينجح نظام العقيد الراحل في بناء مؤسسات قوية تشكل أركان وأعمدة الدولة الليبية أو ما كانت تسمى بالجماهيرية الشعبية.
ليبيا بمساحتها التى تفوق مساحة مصر إلى الضعف تقريبا – مليون وسبعمأئة ألف كيلو متر – كانت الساحة المناسبة لاحتضان مشروع الإسلام السياسى القائم على إشاعة الفوضى والعنف من خلال أدواته المتمثلة في الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وشكلت نقطة الانطلاق الجديدة لهذا المشروع للعودة إلى مصر مجددا ومحاولة اختراق حدود أمنها القومى، بعد أن فشل في تنفيذ مخطط تقسيمها مجتمعيا بين مسلمين ومسيحيين، وسنة وشيعة، ثم سلفيين وصوفيين، علاوة على محاولات نزع أجزاء كبيرة من شمال شبه جزيرة سيناء لصالح إمارة حماس الكبرى.
على عكس شعاراته الداعية لوحدة المسلمين حول العالم، عمل مشروع الإسلام السياسى ولا يزال على تقسيم الدول والمجتمعات التى يجد فيها مناخا مناسبا للتكاثر والنمو وهى مرحلة ضرورية (من وجهة نظره) لتفتيت وحدة الدولة والمجتمع تقود فيما بعد إلى توحيد جميع الألوية تحت لواء دولة الخلافة المزعومة، وفى إطار تنفيذ هذا المخطط المدعوم أجنبيا عمل مشروع الإسلام السياسى على تقسيم مدن ليبيا إلى أحياء يقع كل حى منها تحت امرة أمير جماعة أو تنظيم بعينه، واستعان في ذلك بشباب كانت لديهم ميول إجرامية فساعدهم في تشكيل عصابات وميليشيات مسلحة تحت مسميات مختلفة يتخذ بعضها من الثورة اسما وشعارا مثل ثوار طرابلس وبنى غازى ومصراته، فيما اتخذ بعضها مسميات إسلامية مثل مجلس شورى بنى غازى ومثيله في درنة، علاوة على الجماعات الإرهابية الرئيسية مثل الجماعة الإسلامية المقاتلة وداعش والقاعدة وغيرهم، لذلك جاءت السيرة الذاتية لبعض أمراء تلك جماعات تلك البلاد الملتحفة بالثورة والإسلام تذكر أن أحدهم كان في الأصل سائق ميكروباص أو ميكانيكى أو عامل، مع الاحترام لأصحاب هذه المهن.
وبدأت آلة الإعلام القطرية والتركية تروج إلى انقسام المجتمع الليبى وعودة النزعات الجهوية والمناطقية فبدأت تظهر أصوات تطالب بضرورة إعادة تقسيم ليبيا إلى ثلاث ولايات برقة وفزان وطرابلس، حتى أن أنصار جماعة الإخوان الإرهابية في مصر بدءوا يروجون لهذه الدعاية على مواقع التواصل الاجتماعي وفى تحليلاتهم وكتاباتهم، ولما فشلت هذه المحاولة البائسة، بدأ الترويج لادعاءات جديدة مفادها أن المدن الليبية باتت مقسمة كمناطق نفوذ بين القبائل العربية المختلفة، وأن كل قبيلة تهيمن على منطقة بعينها برجالها المسلحين وتسيطر على كل شىء بما في ذلك حقول وآبار النفط.
وفى محاولة لترسيخ هذا الادعاء بدأ أمراء العصابات الإجرامية والجماعات الإرهابية يتحدثون باسم القبائل التى ينتمون إليها بينما مجالس تلك القبائل وشيوخها يرفضونهم ويعتبرونهم منشقين ليس فقط عن القبيلة وإنما عن الإجماع الوطنى الليبى.
هذه المحاولات امتدت إلى مناطق وسط وجنوب ليبيا حيث قبائل التبو والطوارق، غير أنها باءت بالفشل مع الطوارق، إلا أن بعض المحسوبين على التبو والذين تلقوا أموال ضخمة من حكومة السراج الميليشاوية بدءوا يخرجون على بعض وسائل الإعلام الليبية يرددون النعرات الطائفية والجهوية مدعين أنهم السكان الأصليون وأن لهم خصوصة ثقافية واجتماعية وأن القبائل العربية احتلت ليبيا وفرضت عليها الهوية العربية مطالبين بنزع هذه الهوية عن ليبيا والاكتفاء بتسميتها الدولة الليبية في أى دستور وعقد اجتماعي جديد، كل تلك المحاولات دعمها مشروع الإسلام السياسى وروجت له كل من تركيا وقطر، ولأنها دعوات دخيلة على المجتمع الليبى باءت هى الأخرى بالفشل.
صحيح أن القبيلة في ليبيا لا زالت تشكل وحدة اجتماعية أساسية لكن طبيعة الأراضى الليبية السهلة ووفرة أمطارها وأراضيها الخصبة كانت سببا في تعايش القبائل الليبية على مدى التاريخ بروح التآخى والتعاون ولم يعرف التاريخ الليبى حروبا وصراعات بين القبائل على المراعى أو مصادر المياه كما هو الحال في الصحارى العربية الأخرى ذات الطبيعة القاسية، ما جعل تلك القبائل تدخل في علاقات نسب ومصاهرة جعلت منها نسيجا واحدا هو عماد الوطن الليبى الذى يجمع الكل علما بأن هذا النمط من العلاقات المنفتحة القائمة على الاندماج والتمازج والتى تمتاز به أيضا قبائل الصحراء الغربية المصرية لا تعرفه بعض قبائل الشرق.
محاولات تقسيم ليبيا وتوزيعها بين الانتماءات القبلية والجهوية، وحتى تقسيم أحياء مدنها بين أمراء الحرب لم تكن الشاهد الوحيد على ظلمات مشروع الإسلام السياسى فبعد أن وجد نفسه محاصرا داخل بضعة شوارع في قلب العاصمة طرابلس استدعى الاحتلال التركى كونه الراعى الأول لهذا المشروع الإرهابى بامتياز وصاحب راية عودة الخلافة الإسلامية العثمانية مجددا حلم كل الإسلاميين.
وقد كشف رد فعل المبعوث الأممى غسان سلامة على قيام مدفعية الكتيبة 155 التابعة للجيش الوطنى الليبى بتدمير بارجة تركية في ميناء طرابلس الثلاثاء الماضى كانت تحمل أسلحة ومعدات عسكرية لدعم مرتزقة أردوغان والسراج، أن هناك في المجتمع الدولى من يدعم هذا المشروع حيث اعتبر تدمير بارجة الاحتلال التركى خرقا للهدنة فيما لم يعتبر وصول البارجة انتهاكا واضحا وصريحا لمخرجات مؤتمر برلين وقرار مجلس الأمن الأخير باستمرار حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا وعدم التدخل بهدف إذكاء الصراع.
وهذا ما يفرض علينا في المنطقة العربية إعادة صياغة مفهوم جديد للأمن القومى العربى، فإذا كانت أغلب الدول العربية تصنف تنظيم جماعة الإخوان المسلمين وإذنابه من باقى الجماعات كالقاعدة وداعش وغيرهما كتنظيمات إرهابية فليس أقل من أن يتم عمل إستراتيجية أو رؤية موحدة لمواجهة ومحاصرة أفكار هذا التنظيم وعدم التسامح على الإطلاق مع أى شخص أو كيان يقوم بترويجها وفى مقدمة هذه المفاهيم دولة الخلافة والحلم بعودتها، فقد بات يشكل هذا المفهوم خطرا على الدولة العربية الحديثة، ويعد الجهر بالتبشير بها أو حتى الإعراب عن مجرد الحلم بتحقيقها جريمة تستوجب العقاب الرادع، فباسم رايتها ينفذ الإرهابى أردوغان إلى الرأى العام العربى لتجنيد بعض الشباب الجاهل والسطحى بسبب تدنى مناهج التربية والتعليم وبرامج الثقافة، وهذا ما يعنى أن الجامعة العربية إن أرادت أن تكون فاعلا بشكل حقيقى أن تعيد النظر في طبيعة دورها بالمراحل المقبلة وليكن ذلك من خلال مرصد تنشئة لمراقبة مدى جودة الخدمات التعليمية والثقافية الأساسية في الدول العربية المختلفة، ولتكن الاسسكو المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة نواة هذا المرصد فيما يخص مراقبة مناهج التعليم والمواد الثقافية والدينية والفنية للتأكد من خلوها من الأفكار الإرهابية والمتطرفة والخطاب المحرض على العنف من أجل ضمان بناء إنسان عربى محصن ويتمتع بدرجة من الوعى التى تحول دون استغلاله من قبل الجماعات الإرهابية.
كذلك الجامعة العربية مدعوة لمراقبة مدى التزام الأنظمة السياسية بقواعد الحكم الرشيد وعدم انتهاجها سياسات غير عادلة من شأنها إثارة الخلافات والفوضى وإحداث العنف.
بل على الجامعة العربية مراقبة مدى حرص أعضائها على تبنى إستراتيجية التنمية المستدامة وإيجاد آليات تنسيق لإقامة مشروعات اقتصادية مشتركة تربط كل مجموعة دول عربية تجمعها حدود مشتركة، والهدف من كل ذلك إقامة مجتمع عربى قوى، وأظن أن تجربة السنوات التسع الماضية قد كشفت لنا أن الأمن القومى المصرى أو السورى أو الليبى أو الإماراتى أو الجزائرى يرتبط بما يحدث في كل دولة على حدة، وحتى نبتعد عن شبهة التدخل في الشئون الداخلية لتكن الجامعة العربية هى المظلة لهذا النوع من التدخل فليس من المقبول أن يسمح لنظام عربى ما إن يتبع سياسات إقصائية لعرق بعينة أو طائفة دينية بعينها، أو أن يسمح لشيوع أفكار التنظيمات الإسلامية وفى القلب منها جماعة الإخوان تحت دعوى حرية الرأى والتعبير، أو ترك أبناء مجتمعه دون نظام تعليمى ثقافى متطور لأنه قد يصبح مصدر لانتقال عدوى الفوضى إلى مجتمع عربى آخر مهما بعد ولو كان الأول في الشرق والثانى في أقصى الغرب على شاطئ المحيط الأطلسى.