يحضر في ذاكرتى ما سرده والدى عن المحامى المناضل عبدالرحمن الجنزورى - رحمهما الله- فحين ضاقت الدنيا بوالدى الذى يعول إخوته وأطفاله في غربته بمدينة طرابلس!، وقد تنقل بين مهنة وأخرى، صادف أن عبد الرحمن الجنزورى يبحث عن موظف استقبال أول سبعينيات القرن الماضي، في مكتبه بشارع «هايتي»، وبالفعل وافق الجنزورى على أن يبدأ والدى عمله معه، رتب والدى مواعيده مع موكليه، كما استقبل بعضهم، وحرر لهم ملخص شكواهم، واستلم ما يحضرونه من وثائق، ومما نقل لى والدى عن تجربته الوظيفية ما يشى بصرامة وشدة في مواقف المحامى عبدالرحمن التى تنحاز للحق دون مجاملة أو مهادنة فالحق حق، يعلو ولا يُعلى عليه، كان في حواراته مُجادلا حصيفا يُدلل فيما يتبناه من آراء ووجهات نظر بما يحفظ ويقرأ ضمن مرجعياته المعرفية، والقانونية أساسا، وربما مثل الجنزورى لأبي، مؤسس نادى الجنوب الثقافى بشارع ميزران 1962م بعد استقراره قادما من براك إلى طرابلس، وكذا رفقته للشيخ محمد الماعزى الصحفى والسياسى وقد عمل في زاويته الشهيرة (المدرسة القرآنية)، وبعضا مما كتبه في الصحافة دفاعا عن الجنوب وأهله، ما أوجد المثل والنموذج لأبى في علاقته بالجنزورى الذى كان يكبره سنا وتجربة، وبالأساس جانبه النضالى الذى برز كبصمة وعلامة وسمت شخصية الجنزورى الجريء والمدافع المناصر لحق الآخر في الحياة بشرف وكرامة ولأن يقول كلمته ورأيه دون مصادرة أو منة من أحد.
أحزننى خبر وفاته (12-4-2009م)، وتصورت أنه سيحظى بالتقدير الذى يستحق فهو مناضل ليبي، سافر كمتطوع بمحض الإرادة وبصورة انفرادية لحرب فلسطين على حسابه دون كل من سافروا: الليبيون والعرب حين دعتهم الجامعة العربية لساحة الوغى وتكفلت بتدريبهم ونقلهم، ولعل ما أورده في السيرة (رحلة السنوات الطويلة: وقائع وتأملات في سيرة مواطن ليبي) الذى نشره مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية عام 2000م،ما يضع قارئها في صورة تفصيلية مليئة بالحقائق والمعاينات لمكان الأحداث وشخوصها الذين حفظ أسماءهم لنحفظهم في ذاكرتنا، متطوعى الكتيبة الليبية الثالثة واصفا ليوميات الجنود ودروسهم التدريبية وتقدمهم ناحية مدينة غزة 9-12-1948م، ويسجل لنا كل ما دار وكان، وكيف كان للجنزورى موقفه بل ومبادرته وكلماته التى أطلقها مناديا بأن يمارس دوره الذى قطع المسافات لأجله.
وما لفت انتباهى لاحقا حين اقتنيت كتابه السيرة الذى حمل عنوانا ينبئ عن تواضعه (سيرة مواطن ليبي) وبطلها السارد: صاحبنا، وهو من يهدى عمله أولا إلى المرأة الرافضة لأوضاع الضيم والقهر، وتلاه بإهداء إلى زوجته «افطيطيمه بوحلقه» التى رأى فيها نموذجا للمرأة الفاعلة، ووثق في سيرته التى حوت سبعة مواضيع أساسية قدم في فصلها الأول سيرته في المكان النشأة: المدينة القديمة وبقلمه المستفيض ساردا وبشغف المحب، وفى ظنى أنه وثق بتجرد ووضوح كل ما عمر به المكان سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا وبمتعه تفوق الوصف مثل الجزء المتعلق بعادات وتقاليد الحيز المكانى، حكايات وطقوس باب البحر باب الجديد: الأفران والصيادون وسوق الصاغة وسوق الثلاث ومحلات البقالة، والنساجة، وعن عريفتى (المرأة التى تفتح بيتها لتعليم الفتيات)، مناسبة سيدى المكارى والقوديات، وهى تصلح كمرجع هام لمن يبحث في انتربولوجيا وسيوسيولوجيا طرابلس في تلك الفترة 1926 وما تلاها، حيث كانت طفولته التى لم يعشها مرتاحا وهنيئا فتارة صبى حرفة نسج الأردية كما أنه من ينظف ويحمل كل شيء يكلف به مع أسطى النول خليل الشاوش في محله، ولم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، منقطعا عن المدرسة لسنوات لظروف قاهرة مُذلة رافقت الاحتلال الإيطالي، إلا أن الطفل عبدالرحمن يُصيخ السمع منصتا لجلسات تجمع رفاق الشاوش داخل سوق الحرير: حواراتهم عما يعرفون، ويسمعون، ويطلعون، كما يصيخ السمع مُرتعبا لغارات الطيران الفرنسى على ميناء طرابلس وعبور أول دبابة إنجليزية لمنطقة سكناه جنزور 1942م، حينها انتقل للعمل بمعمل لإنتاج الجير، ثم ورشة لتصليح وصيانة السيارات صبى ميكانيكي، وفى المقاصف والمطاعم التابعة للجيش البريطانى وإذا كانت تلك المرحلة من المعاناة صنعت ذاته المثابرة وأكسبت شخصيته العراك والصبر إلا أنها خلقت لديه الإصرار والعمل على محاولة تغير ذلك الواقع الاضطهادى الظالم، ومنها حاول السفر إلى مصر لكنه أحبط إذ أعاده أهله، ثم أعاد الكرة ولكن باتجاه الغرب إلى تونس وينجح ليلتقى فيها مع كثير من المهاجرين الليبيين وينضم إلى جمعية المهاجرين، ويواصل المحامى عبدالرحمن سيرته بين طرابلس والقاهرة، ففى طرابلس حيث انبعاث الحركة الوطنية ونضالها التى أسهم بنصيبه فيها بحسه المنفتح على حرية الرأى والتعبير لأن تكون ليبيا موحدة، وإكمال دراسته الحقوقية بمصر، وقد قارب أن يعمل في جامعة الدول العربية لولا مصابه في شقيقه الأكبر. بأمل أن تكمل أسرته نشر الجزء الثانى من سيرته كمناضل حقوقي، ونموذج وطني.