الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أدب الطفل الأفريقي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
خلال قراءاتى ومتابعتى لأدب الطفل الأفريقي وجدت الدراسات التى تتناول ظواهر هذ الأدب تتأسس على نظريات الأنثروبولوجيا الثقافية وإطارها المعرفى والإجرائى التى يستهدف استقصاء الخفىّ والمضمر والمسكوت عنه في النصوص الأدبية، وذلك من خلال أعمال أدبية قمت بترجمتها مباشرة، ومن خلال الأعمال المتاحة باللغة العربية، وتنتمى إلى ثقافات أفريقية متنوعة تعطى، فيما أتصور، صورة تقريبية لحركة الأدب والحكايات الأفريقية التى تتناول عالم الطفل وخيالاته، لم يكن اختيارى هذا مقتصرا على بحث الدلالات الصريحة والمباشرة، وإنما تعداها إلى استقصاء للدلالات الضمنية في أبنية النصوص وسياقها اللغوى. لقد تناولت أدب الطفل الأفريقي باعتباره أدبًا يمتلك كل مقومات الوجود وكل ممكنات التطور وكل أشكال الإبداع وليس مجرد فلكلور مجتمعات محلية وتكوينات قبلية،
بتعبير آخر، فإن المنهجية المستمدة من الأنثروبولوجيا الثقافية قد تدرس القصص والحكايات الخاصة بالطفل الأفريقي باعتبارها «فولكلور»، أى باعتبارها تمثيلًا لهوية الجماعة الشعبية وتجسيدًا لها، لكننى درست هذا الأدب من حيث امتلاكه في ذاته للطبيعة النوعية للأدب وأشكاله وثرائه الدلالى، مثله في ذلك مثل الآداب الكبرى للشعوب والثقافات المختلفة، التى أنتجت أدبًا وحكايات متجددة ومكثفة، إن الأدب الأفريقي وخاصة ما كان منه مرتبطًا بعالم الطفل ومتصلًا بخصوصيته الزمنية والتربوية، يماثل، فيما أرى، الأدب الغربى، والعربى، وأدب أمريكا اللاتينية، وغير ذلك من آداب كبرى.
وهناك أشكال عديدة لأدب الطفل الأفريقي منه المستمد من الحكايات الشعبية ومنه المستمد من الخبرات الاجتماعية ومنه ما يصور الحياة والمصائر الفردية، في تنوع لافت في بنية الحكايات وتكوين العالم المتخيل، سواء من حيث المكان والزمان، أو من خلال المخلوقات المختلفة التى تعيش فيه وتكون بيئته وتتجاور فيها باعتبارها من مكونات هذا العالم. ولذا نجد الحكايات ممتلئة بهذه المخلوقات في تجانس وتفاعل. نجد الطيور والحيوانات والزواحف والبشر في نسيج لغوى متصل ومركب وجود متداخل ومتشابك، فالطائر في النص - كمثال استدلالى - لا يوجد باعتباره نوعًا في ذاته، بل قد يجرى حوارًا مع الشجر أو النهر أو الحيوان أو البشر، بما يشى بصدور الحكاية عن عقل جمعى يرى العالم موحدًا بفضاءاته ومخلوقاته وعلاقاته، ويتصور الكائنات والأشياء والموجودات كلها مبثوثة ومنضوية في وحدة الوجود. ومثال ذلك، قصة الأفعى، تلك القصة التي - قمت بترجمتها ونشرها - تحكى عن أفعى قاسية وشريرة تأكل من تجد في طريقها من الأبقار والأطفال وحتى الرجال، طاردها أهل القرية لقتلها، لكنها فرت إلى حديقة بستانى طالبة منه حمايتها، فخبأها تحت حجر في الحديقة، وحين انصرف أهل القرية، خرجت الأفعى تريد طعامًا، قالت للبستانى ليس أمامى غيرك، سآكلك الآن، رد غاضبًا ومتعجبًا: لقد آويتك وحميتك من القتل، فهل يكون الجزاء هو الموت، أنت أفعى شريرة، لكنها فاجأته بقولها، لا البشر هم السيئون.
مع هذا الخلاف، قررا الاحتكام إلى الشجرة التى قالت بأسى واضح، أنا أفرد ظلالى وثمارى للبشر، ولكنهم يجيئون بالفؤوس ويأخذون الخشب ليوقدوا نارهم، وهكذا، فإن الأشجار طيبة والبشر سيئون، ذهبا إلى النهر لاحتكام مماثل، فقال إننى أقدم الخير وأعطيهم الماء، ولكن البشر يقذفوننى بالحجارة، الحشائش حينما ذهبا إليها قالت كلاما شبيها بما قالته الشجرة والنهر، وأثناء ذلك هبت الرياح، فاحتكم إليها البستانى والأفعى، فجاوبت بما يشبه تلخيص الحياة، قالت الريح: كلنا نحب الحياة، الشجرة تريد أن تحيا، والنهر يريد الجريان، والحشائش تريد النهر، والأفعى تريد الطعام، والبشر يريدون الخشب والنباتات والنهر، قالت الريح ذلك وأخذت في الرقص، وعلى إيقاعاتها المنتظمة رقصت الحشائش وفروع الأشجار والمياه في النهر، وكذلك رقصت الأفعى، حين رأى البستانى ذلك أسرع عائدًا إلى بيته راقصًا، لأن الطبيعة تريد الحياة، القصة كما هو واضح تمجيد للحياة ونشيد لها، ورغم أنها ابتدأت بالصراع ورصدت ظواهره، إلا أنها انتصرت للوئام والمحبة، بحيث طوت في ختامها الراقص لقطات العداء والانفصال بين المخلوقات والبشر، الحشائش والنهر والشجر والأفعى يرون الإنسان معاديًا وسالبًا لوجودهم، النهر يعطيه الماء والشجر يمنحه الظلال، وهو يقطع الجذوع والفروع ويقذف الأحجار في المياه، لكنهم مع لمسة الرياح ورقصتها يتجاوزون الأسى والعداء منخرطين في نشيد كلى لما تهبه الحياة بما في ذلك التعارض، وكأن الرياح تقول إن الحياة قائمة على مبدأ النقيضين ومبنية على الثنائيات الضدية، ولكنها - أى الحياة - طاقة نشوى مبثوثة في مخلوقاتها كلها. تلك الملامح المجملة التى رصدتها في هذا المقال سنستكملها في مقال قادم يحمل من القصص الجميلة ما يوضح ذلك وأكثر.