بعد تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى، وخلال سنوات قليلة حرصت الدولة على البدء فورًا فى إعادة الروابط المصرية مع أفريقيا، إلى سابق عهدها باعتبار أن القارة هى العمق الطبيعى لمصر، وذلك بعد سنوات من التراجع فى هذه العلاقة، التى تمثل أحد أعمدة العلاقات المصرية اقتصاديًا واستراتيجيًا، وخلال السنوات الأخيرة تضاعفت الاستثمارات المصرية فى أفريقيا، كما سعت مصر إلى إعادة التعاون المشترك مع دول القارة، فضلاً عن توسيع الاهتمام بالقضايا القارية فى عالم يشهد تحولات اقتصادية وسياسية عاصفة.
وقد سلمت مصر رئاسة الاتحاد الأفريقى بعد عام قدمت فيه القاهرة دورها فى رئاسة الاتحاد، وسعت إلى تقديم قضايا أفريقيا بشكل واسع فى المحافل الدولية «الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقمتى مجموعة السبع، ومجموعة العشرين، والاجتماعات الاستراتيجية المتنوعة مع اليابان وروسيا وألمانيا وبريطانيا، وكان الهدف وضع أفريقيا على الخريطة الاستثمارية، والاستفادة من ثرواتها الطبيعية الهائلة».
ويخطئ من يظن أن تسليم رئاسة الاتحاد هى نهاية التحركات الاستراتيجية التى تقوم بها مصر لخدمة قضايا القارة وأبنائها، بل هى إحدى المراحل التى مرت بها العلاقات المصرية الأفريقية، والمستمرة ضمن استراتيجية عامة أكثر شمولًا، وضعتها القارة السمراء ضمن أولويات السياسة الخارجية المصرية.
فمنذ 2014 بات واضحًا للجميع أن لمصر سياسة خارجية مغايرة لما كانت عليه فى السابق، وأن القارة السمراء تحتل موقع الصدارة ضمن هذه الاستراتيجية، ولم يقتصر الأمر على مجرد أفكار ورؤى، بل شهدت السنوات الماضية تحركات مصرية على الأرض، أثبتت للأفارقة أنفسهم أن علاقاتهم بالقاهرة تأخذ مسارًا مغايرًا، وضع أسسه الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذى كان ومازال حريصًا فى كل مشاركة دولية أن تكون قضايا القارة الأفريقية على جدول الأعمال والنقاش، وليس ذلك فقط، وإنما وضع كل الأفكار موضع التنفيذ، وبطبيعة الحال ستستمر هذه التحركات بنفس الوتيرة التى سارت عليها مصر فى العام المنقضى وما قبله، لأننا نتحدث عن استراتيجية مستمرة وليست عارضة.
فقبل الرئاسة المصرية للاتحاد الأفريقي، كان الرئيس السيسى هو الداعى والداعم أيضًا لإنشاء منطقة التجارة الحرة الأفريقية، والدمج بين التكتلات الاقتصادية الثلاثة فى القارة، وهو التحول الأكبر الذى شهدته أفريقيا على مدى عقود طويلة، وبجانبه الكثير من المبادرات التى أطلقتها القاهرة، ولم تتركها دون آليات للتنفيذ والمتابعة، فعلت القاهرة ذلك قبل أن تتولى رئاسة الاتحاد، وستفعل ذلك بداية من يوم انتقال الرئاسة لجنوب أفريقيا.
ما قاله الرئيس فى القمة الأفريقية، بشأن استمرار التحركات المصرية، هو النهج الذى تسير عليه مصر منذ 2014 وحتى اليوم، ومستمرة فى السير فيه، خاصة أن الأجندة المصرية تجاه القارة لاتزال مليئة بالكثير، فالقاهرة كانت صاحبة المبادرة الداعمة للشباب الأفريقي، التى كان لها مردود قوى وفعال فى دول القارة، والتى كانت من نتاجها إطلاق «البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب الأفريقي» الذى احتفل الأسبوع الماضى بتخريج الدفعة الثالثة، ويستعد حاليًا لاستقبال الدفعة الرابعة، وهو البرنامج الذى يهدف إلى تشكيل قيادة شبابية أفريقية قادرة على مواجهة التحديات، وقادرة أيضًا على تحمل المسئولية.
وبدون شك أن الشباب هم عماد التغيير والتقدم أيضًا، هذا هو النهج الذى سارت عليه مصر، وتحدثت به مع أشقائها الأفارقة، ففى كل مناسبة قارية، نجد الرئيس دومًا يوجه رسالة خاصة لشباب أفريقيا، تدعوهم إلى التفكير فى المستقبل، وأن يكونوا عناصر البناء لدولهم.
فمصر فى تحركها كانت تبنى على ما سبق فيه الاتحاد، إضافة إلى جهود فى توضيح الفرص الأفريقية أمام العالم بوصفها فرصا تتيح الربح لمن يستثمر، بشرط أن تكون التنمية والاستثمارات مصدرا لتنمية القارة وشعبها ومواطنيها، وليست مجرد مكان للمواد الخام أو المغامرات الاقتصادية غير المحسوبة.
وتحرك مصر تجاه أفريقيا لم يكن مجرد رغبة، لكنه كان فى السياسة المصرية تعبيرًا عن المصير المشترك لدول القارة، وما يمكن أن يحققه التكامل والتعاون المشترك فى إطار الاستثمار والتنمية.
وقد جاءت كلمة الرئيس السيسى بالجلسة الافتتاحية للاتحاد الأفريقي، تعبيرًا عن جهود القاهرة نحو قضايا القارة وحجم التحديات التى تواجهها والفرص التى تتيحها الإمكانات القائمة، وطرح كل القضايا القارية وخطورة النزاعات القائمة فى الساحل والقرن الأفريقى والسعى لمواجهة النزاعات وحلها سياسيًا، وإتاحة آليات للتدخل فى هذه النزاعات وحلها حتى لا تتحول إلى بؤر تؤثر على واقع ومستقبل القارة. حتى يمكن أن تكون القضايا الأفريقية فى سياق القارة وفى الوقت نفسه انفتاح أفريقيا على المؤسسات الدولية لتحقيق التنمية الشاملة، وتنفيذ المشروعات القارية مثل الربط الكهربائى، تمهيدًا لإنشاء السوق الأفريقية للطاقة، ومشروع القاهرة - كيب تاون ومشروعات الطرق والسكة الحديد وغيرها، ومضاعفة عوائد، وأخيرًا دعوة مصر لإنشاء قوة أفريقية مشتركة لمكافحة الإرهاب، وهو أحد أخطر التهديدات التى يواجهها عدد من الدول الأفريقية، بشكل يعرقل جهود التنمية والتقدم.
فمصر فى عهدها الحالى، تتمتع ببُعد نظر، وقراءة واقعية للأحداث فى المنطقة، وتعتمد على تقارير تقدير موقف عن الأخطار والأطماع فى مقدرات الأمم المختلفة، خاصة المنطقة العربية، وأفريقيا، وعندما أطلق الرئيس السيسى فى عام 2015 رسالة تحذير مبكرة، للأشقاء العرب بضرورة تشكيل قوة عربية مشتركة، تكون درعًا وسيفًا، وتحفظ وتصون الأمن القومى العربى، ولاقت الفكرة موافقة وتفاعلاً من بعض الدول، وفى 29 مارس 2015 قرر مجلس جامعة الدول العربية، الموافقة على الفكرة، وصدر قرار الموافقة رقم 628، إلا أن الفكرة تم وأدها فجأة، وكأن بعض الدول لم يرُق لها تشكيل هذه القوة.
وحذر الرئيس السيسي، ومازال، من أن الجميع فى قلب دائرة الخطر، ولا توجد دولة واحدة بمنأى عن هذا الخطر، لذلك يستوجب أن يكون للعرب قوة عسكرية قادرة على الدفاع والردع، وتتخلص الأمة من شراء الحماية والأمان بالمليارات، لكن للأسف، وكالعادة العربية التى لا تنقطع أبدًا، قرروا وأد الفكرة، وخرجت على أنقاضها أفكار مطاطة تفتقد لآليات التنفيذ والقدرة، ومنها التحالف الإسلامى العسكرى لمحاربة الإرهاب، وهو حلف عسكرى أُعلن عنه فى 15 ديسمبر 2015، ويضم 40 دولة مسلمة.
وصدقت تحذيرات مصر، بوضوح من خلال التهديدات الخطيرة للأمن القومى العربى، فى الخليج وشمال أفريقيا، والشام، ولم تعد أى دولة من الدول العربية بمنأى عن خطر الوقوع بين أنياب الاستعماريين، القديم منه والحديث، علاوة على الابتزاز والاستنزاف لثروات الشعوب، وها هى العراق وسوريا وليبيا ولبنان، على سبيل المثال بين مخالب الاستعمار الإيرانى والتركى، وكل منهما لديه طموح لإعادة جغرافيته القديمة أو ما يطلق عليه إصطلاحا «إرث أجدادهم».
ونظرًا للإرهاب الذى حطم الحدود، وصار يهدد الجميع، متخذًا من أفريقيا مسرحًا تنطلق منه عملياتها لتهديد الدول المستهدفة، استعرض الرئيس عبدالفتاح السيسي، فى كلمته الختامية بالقمة الأفريقية، مقترح استضافة مصر لقمة أفريقية تخصص لبحث إنشاء قوة عسكرية أفريقية لمكافحة الإرهاب، وذلك من واقع مسئوليات مصر تجاه القارة وإيمانًا منها بأهمية ذلك المقترح لتحقيق السلم والأمن فى القارة الأفريقية. ووجه الرئيس السيسي، دعوة لدول الأعضاء بالاتحاد الأفريقى للتشاور المستفيض حول كل الأبعاد التنظيمية والموضوعية لتلك القمة، وهذه القوة المقترحة بمعرفة مجلس السلم والأمن الأفريقى واللجنة الفنية للدفاع، على أن يُعرض الأمر على هيئة مكتب القمة فى أقرب وقت.
فى تقديرى، أن المبادرة رائعة، وأن هذا الكيان العسكرى القوى، لو وجد الآلية العملية للتنفيذ، والإيمان بها، ستكون رقمًا فاعلاً وقويًا لمواجهة الإرهاب، وكل ما يهدد أفريقيا من مخاطر، كما ستلعب دورًا فى تهدئة وحل الصراعات العسكرية التى تستنزف موارد وثروات الشعوب الأفريقية، ولمَ لا؟ فأفريقيا تستحق أن يكون لها كيانات عسكرية واقتصادية وعلاقات قوية بين شعوب القارة، وتنهض مثلما فعلت أوروبا، فحلف الناتو تأسس وأصبح الرقم الأهم فى معادلة القوة فى العالم، والاتحاد الأوروبى تأسس، ولعب دورًا فى العلاقات الاقتصادية تحديدًا.
وأعتقد أن الفكرة لو تبناها الاتحاد الأفريقي، سيكون لأفريقيا كيان قوى، قادر على الحماية ودون الحاجة للجوء إلى الاستعمار الحديث، سواء فرنسا أو أمريكا، بجانب عبث إسرائيل وتركيا وغيرها من الدول فى منطقة القرن الأفريقي.
كل هذه شواهد تؤكد أن أفريقيا ستظل فى قلب ولب مصر ورئيسها، سواء كانت رئاسة الاتحاد الأفريقى لدينا أو لا، لأن الهدف الدائم الذى تسعى له القاهرة هو تحقيق السلم والأمن والتنمية للقارة المليئة بالكثير من الخيرات والقدرات الكامنة، التى بحاجة فقط لمن يُحسن استغلالها، وليس سرقتها.