وقف الصغير على خشبة المسرح، غير عابئًا بتلك العيون التي تراقبه في صمت، لم يتخط العاشرة من عمره، ومع حداثة سنه لم يهتز جسده الضئيل لذلك الصمت المُريب، كان يدرك جيدًا تلك الحالة التي أصابت الجميع، ترقبًا لسماع صوته الصغير، شغفًا لما سيلقيه عليهم من كلمات، تحمسًا لمدى نجاحه لحثهم على اختياره، أمسك بإحدي يديه الصغيرتين ذلك الميكروفون، في حين أشار باليد الأخري لفريق العزف، مؤكدًا استعداده، قبل أن يلتقط نفسًا عميقًا ليخوض تلك المعركة.
"يا وابور قول لي رايح على فين، يا وابور قول لي وسافرت منين".. بصوت رخيم لم يخلو من الإحساس الرقيق راح ذلك الصغير يشدو على المسرح رائعة الموسيقار محمد عبد الوهاب، والذي أثبت رغم رحيله منذ أكثر من ثلاثة عقود، حيث وافته المنية عام 1991، أنه مازال وسيظل موسيقارًا للأجيال، حتى بعد رحيله، فذلك الفتى الصغير، راح بمنتهى الثبات والمرونة والدقة والوضوح وجمال الصوت يشدوا بتلك الرائعة التي خرجت إلى النور عام 1938، كان جده الثاني قد ولد في ثلاثينيات القرن الماضي، أي أنه كان في مثل عمره حينما تغني عبد الوهاب برائعة شاعرنا الكبير أحمد رامي.
كمواطن مصري عادي، قد يستسيغ بعض الأصوات، وقد يرفض البعض الأخر، ولكنه بالتأكيد سينحاز دائمًا للفن الحقيقي، حتى إذا ما اضطرته الحداثة لسماع ما قد يمر أمام أذنيه من أصوات عابرة، فالفن مثل اي شيء في الوجود، يتأثر بكل ما يُحيط به من ظروف بيئية وحياتية وربما اقتصادية أيضًا، فنراه يتشكل ويتطور وفقًا لتأثير عوامل الزمن، ومنذ سنوات توقفت علاقتي بتلك الحالة التي يزعمون إنها فنيه لذلك الجيل الذي لا انتمي له رغم ارتباطي به، لذا آراني دائم البحث عن هؤلاء الصغار الذين يلجأون لطرب أجيال سابقة، علني أجد فيهم ما يطمئن عقلي الوهن تجاه فننا الأصيل.
مؤخرًا أثار البعض ممن أطلقوا على أنفسهم لقب "فنانين" موجه عارمة من النقد والاستهجان، فقد تجرأ أحدهم طلب الانضمام لنقابة الموسيقيين، ورغم أنني لم أكن في يوم من الأيام من هواه سماع ما أسموه بالأغاني الحديثة، أو ما يمكن تسميته بفن المهرجانات، إلا إنني شعرت أنه وفي ظل وجود هؤلاء، ماذا سيغني أحفادي إذا ما رأوا في أنفسهم مطربين، كيف سيقف صغيري ليشدوا بروائع جيلي الفنية، هل سيتخذون من كزبرة وحنجرة وشواحة وشطا وحمو بيكا والعفريت وشاكوش قدوه لهم، لم لا وهم سيعتقدون أنهم يعبرون عن جيل أجدادهم.
قيل قديمًا أن الفكرة لها أجنحة، وأنه لا أحد قادرًا على منعها من الطيران، أما الفن فقد أثبت أنه أكثر قدرة منه، فهو يمتلك آله زمن عابرة للأجيال، لا أحد يمتلك القدرة على منعها من الاستمرار في ذاكرة أجنة اليوم، ليتغني بها شعوب المستقبل، قد يؤدي البعض شكل من أشكال الفنون، أو يشدو بصوته بعض الكلمات، دون أن يسمي نفسه مطربًا يقدم هذا الفن، وقد رأينا في زمن الفن الجميل بعضهم، فظهر لنا عمر الجيزاوي وشكوكو واسماعيل ياسين وثريا حلمي وسيد الملاح وغيرهم من كبار مؤدي الأغنية والمونولوج، ولكنهم لم يجرؤوا على وضع أنفسهم في صف أهل الطرب.
الحقيقة التي يجب أن نعترف بها، أن هذا الجيل لم يكن الأول الذي ينتقد فنه بهذا الشكل الصادم، فحتي الأجيال السابقة هاجمت نجوم الطرب التي ظهرت في عصرهم، بل ووصفوها بأنهم مدمرين للذوق العام، حتى أن سيد درويش والذي وصف بأنه مجدد الموسيقى وباعث النهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي، لم يكن يُنظر له كعملاق مثلما نعتقد اليوم، فقد واجه نقدًا لاذعًا كاد يُنهي حياته الفنية، حينما قالوا أنه يحطم قواعد موسيقية وجب الحفاظ عليها، نفس الأمر تعرض له موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، في حين أتُهم عندليب الغناء عبد الحليم حافظ بتحطيم تابوهات الفن المصري في أغنيته الأولي "صافيني مرة"، وعلي هذه الشاكلة انتظر الفنان الشعبي أحمد عدوية دوره في الهجاء.
ما قلته عن الهجوم الذي تعرض له السابقون من أهل الفن، لا يعني وضعهم على الإطلاق في نفس السلة التي يتعرض المعاصرين ممن يدعون إنتماءًا لعالم المغني، والدليل على ذلك استعانة صغار لم يعيشوا عصور الطرب الأصيل، لروائع طربية لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وسيد درويش وعبد الحليم، وحتي إذا ما قرر البعض منهم الاستعانة بروائع المؤدين وأنصار عالم المونولوج، سيجدون من القيمة ما يمكن تقديمه لعالم الفن من أغاني الجيزاوي وشكوكو واسماعيل ياسين، أما كزبرة وحنجرة وشطا بيكا والعفريت، فسيلفظهم التاريخ كما لفظ غيرهم من مدعي الفن والأداء الغنائي.
عالم الـ"نمبر وان"
لم أكن انتوي في يوم من الأيام كتابة نقد فني، وذلك لاعتبارات كثيرة، أهمها على الإطلاق إنني لم أكن من أهل الإختصاص، أو من أصحاب القدرة النقدية لعالم الفن، وإن كنت أري أن النقد لا يحتاج لامتلاك علوم التخصص، بقدر ما أنه يحتاج لبعض القدرات التي تجعل صاحبه قادرًا على التذوق وإدراك تاريخ الفن ومدى تأثيره على المجتمع، واعتقد أنه في ظل اضمحلال هذا العالم في سنواته الأخيرة، سواء من ناحية أنصاره، أو من ناحية ما يقدموه لنا من شيء أطلقوا علية "فن"، وجب علينا تقديم تحليل لا يصل إلى حد النقد، ولكنه يقدم رؤية لجيل حُرم الفن الاصيل.
للسينما والدراما دور عظيم، بل أن أهميته من أهمية التاريخ نفسه، فحتي اليوم نستطيع أن نكتب التاريخ من بعض أعماله، فتلك الأعمال التي أنتجت في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينات القرن الماضي، جعلتنا ندرك حجم التغير الذي طرأ على المجتمع المصري، من سلوكيات مجتمعية صدأت واختفت من حياتنا، لنظافة شوارع ومنازل المحروسة، وذلك رغم ما يصلنا عن حالة الفقر الذي عاشه أجدادنا، لذا لا يمكن أن نعتقد أن ما نقدمه اليوم من فن يمكن أن يقدم رؤية واقعية عن حال مجتمعنا، رغم ما يعيشه البعض من سلبيات مجتمعية وجب التصدي لها.
"وجد الفن ليعبر عن حال المجتمع.. كما وجد ليساهم في إلقاء الضوء على مشكلاته ويسعى جاهدًا لإيجاد حلول له".. تلك هي رؤية مؤرخي التاريخ لدور الفن، وقديمًا تمكن الفن المصري من لعب هذا الدور بشكل فاعل، ومنذ سنوات ليست بعيده تمكن من تقديم بعض الحلول لمشكلات المجتمع، فعلي سبيل المثال، واجه وحش الشاشة المصرية فريد شوقي بفيلميه "جعلوني مجرمًا" و"كلمة شرف"، بعض من مشكلات المجتمع، فعقب عرض الأول، صدر قانون مصرى ينص على الإعفاء من السابقة الأولى في الصحيفة الجنائية حتى يتمكن المخطئ من بدء حياة جديدة، في حين أثر الثاني في تعديل القانون لكى يسمح للسجين بالخروج بضوابط معينة لزيارة المرضي من أهل السجين أو دفن الأقارب، أو حتى حضوره لبعض المناسبات الخاصة بهم.
ذاكرة السينما
طيلة أكثر من قرن مضي، قدمت السينما المصرية أكثر من أربعة آلاف فيلم سينمائي، وعدة آلاف من الفنانين والممثلين، رغم أن الكثير منهم يُعد أعظم ممثلي العالم العربي سواء لجيلة أو لأجيال أخرى أعقبته، لم نري أو نسمع أحد منهم يزعم أنه أعظم فناني جيلة، أو أنه "نمبر وان" السينما المصرية، كثيرًا ما نسمع ونشاهد لقاءات فنية من الزمن الجميل لهم، لم يلفظ أحدهم بعبقرية أو بقدرة على لعب تلك الأدوار الصعبة، ودائما ما يعترفون بأنهم حاولوا واجتهدوا لتقديم تلك الشخصيات، وأن الجمهور فقط هو الذي يمتلك الحق في تقييم أدائهم.
هل سمعت يومًا على سبيل المثال فريد شوقي يلقب نفسه بـ"وحش الشاشة" أو "ملك الترسو"، هل رأيتم الفنان عادل أدهم يصف نفسه بأنه "صاحب الألف وجه"، هل اعتقدتم أن أم كلثوم كانت تقول على نفسها "كوكب الشرق"، هل أطلقت فاتن الحمامة لقب "سيدة الشاشة العربية" على نفسها، من وصف سعاد حسني بـ"السندريلا"، من أطلق لقب "فارس السينما" على أحمد مظهر، "الأستاذ" على فؤاد المهندس، و"الزعيم" على عادل إمام، و"كوكب السينما العربية" على ماجدة، و"صوت مصر" على شادية، و"أنتونى كوين الشرق" على محمود المليجي، من منح نجيب الريحانى لقب "زعيم المسرح الفكاهي"، كيف حصل عماد حمدى عليه لقب "فتى الشاشة الأول"، والكثر من الألقاب التي حصل عليها فناني الزمن الجميل، كانت هبة حصلوا عليها من جمهور أحبهم، وأعمال خلدت ذكراهم.
طيلة أكثر من قرن مضي، هي عمر السينما المصرية، ظهر عشرات الآلاف من الممثلين والممثلات، قدموا أكثر من أربعة آلاف عملًا سينمائيًا، وبنهاية القرن العشرين تم اختيار مائه فيلمًا سينمائيًا كأفضل الأعمال التي قُدمت خلال تلك الفترة، تنتمي لمختلف العقود، بدأت بعقد الثلاثينات التي ظهرت منه 4 أعمال سينمائية، ثم الأربعينات 7 أعمال، والخمسينات 24 عملًا سينمائيًا، والستينات 28 عمل، والسبعينات 20 عمل، والثمانينات 12 عمل، وأخيرًا التسعينات بخمسة أفلام سينمائية، ما يعني ازدهار خمسينات وستينات وسبعينات القرن بتلك الأعمال السينمائية القيمة.
وقد قام بإخراج الأعمال السينمائية الأفضل خلال القرن العشرين 41 مخرجًا سينمائيًا، بينهم المخرج الألماني فريتز كرامب، والمجري أندرو مارتون، أما المخرجين المصريين فكأن على رأسهم يوسف شاهين، والذي قام بإخراج 12 عملًا سينمائيًا، ثم صلاح أبو سيف 11 عمل، وكمال الشيخ 8 أعمال، وحسين كمال 6 أعمال، وهنري بركات وعاطف سالم ومحمد خان وتوفيق صالح، ولكل منهم 4 أعمال سينمائية، وهناك أيضًا عز الدين ذو الفقار وعاطف الطيب وسعيد مرزوق وحسن الإمام، ولكل منهم 3 أفلام سينمائية، وعملين لكل من فطين عبد الوهاب وعلي بدرخان وعلي عبد الخالق ورأفت الميهي ومحمد كريم ونيازي مصطفى، بالإضافة إلى 21 مخرجًا مصريًا ساهم كل منهم بعمل واحد فقط.
أما الفنانين المصريين، فقد حظي 140 فنانًا مصريًا بأعمالهم القيمة للانضمام لأهم مائة فيلم مصري خلال القرن العشرين، وأقصد هنا بأدوار البطولة الأولي والثانية، وربما بعض الأعمال التي شهدت بطولة جماعية، أهمهم على الإطلاق الفنانان شكري سرحان ومحمود المليجي اللذان شاركا في 15 عمل سينمائي، وعماد حمدي 14 عملًا، وفريد شوقي 11 عملًا، بالإضافة إلى كل من فاتن حمامة وتحية كاريوكا وحسين رياض ورشدي أباظة، وكل منهم 10 أعمال سينمائية، وزكي رستم وصلاح ذو الفقار وسعاد حسني ولكل منهم 9 أعمال، وأحمد مظهر وعزت العلايلي 8 أعمال، ونور الشريف 7 أعمال سينمائية.
ظهر في قائمة أفضل الفنانين 12 فنان ولكل منهم 6 أعمال، وهم يحيي شاهين، أنور وجدي، نادية لطفي، شادية، عبد الوارث عسر، عمر الشريف، أمينة رزق، كمال الشناوي، سميرة أحمد، محمود مرسي، أحمد زكي، توفيق الدقن، في حين قدم خمسة فنانين 5 أعمال سينمائية وهم، حمدي أحمد، صلاح منصور، ميرفت أمين، يوسف شعبان، عبد المنعم إبراهيم، كما قدم 13 فنان 4 أعمال فنية وهم، عباس فارس، زيزي مصطفى، حسن يوسف، هدي سلطان، يوسف وهبي، مديحة يسري، ماجدة الخطيب، محمود ياسين، صلاح قابيل، عادل أدهم، حسين فهمي، عايدة عبد العزيز، بالإضافة إلى 11 فنان قدموا 3 أعمال، على رأسهم هند رستم، سناء جميل، عمر الحريري، محمود عبد العزيز، سراج منير، ماجدة، عبد الحليم حافظ، زهرة العلا، يسرا.
عدد كبير من الأسماء اللامعة، لن يسمح المقال بذكر أسمائهم، والتي حفرت بأعمالهم مجدًا فنيًا حقيقيًا، لذا خلدهم الجمهور الذي يتابعهم من المحيط إلى الخليج بألقاب يستحقونها، وحُفظت أعمالهم في ذاكرة التاريخ حتى اليوم، فأضحوا نجومًا لكل جيل لاحق عليهم، أما بعض ممن يطلقون على أنفسهم نجوم، فلولا عشرات ومئات الفضائيات التي تغزو منازلنا لما أصبح لأكثرهم مكانة في ذاكرة الحاضر وليس المستقبل.