ما زلنا نحصر تجديد الخطاب الدينى فى النصوص الدينية والتفسيرات وعلى المنابر فقط، دون أن نتطرق للقضية الأم فى الخطاب الدينى وهى توسيع دائرة المشاركة فى التطوير.
حصر تطوير الخطاب الدينى فى النص والتراث يظلم بقوة مفهوم التطوير ذاته، فمؤسسات الدولة من تعليم وثقافة وإعلام ومجتمع مدنى بكل فئاته وطوائفه، غائبة عن كل الحوارات وأى حوارات، وانتهى الأمر بمؤتمرات يناقش فيها رجال الدين والباحثون أنفسهم، فى ظل غياب الناس والمتلقين أنفسهم، وكذلك أصحاب الرؤى، ووجهات النظر الأخرى، فهؤلاء ليسوا على أى طاولة بحث ونقاش، بالرغم من أهمية ما ينتهى إليه المؤتمرون.
والسجال الذى شهده مؤتمر الأزهر حول تجديد الفكر الدينى بين الدكتور أحمد الطيب ورئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت، هو حوار صحى فى مجمله، ومن المفترض أن يؤدى إلى بناء إطار فكرى جديد ومتجدد فى المفاهيم الإسلامية الفكرية، ولكن محاولة الخروج منه بحالة انقسام بين مؤيدين ومعارضين لكلا طرفى الحوار، هو الآفة الكبرى فى أى حوار هدفه التصحيح.
مؤكد الدكتور «الخشت» له مكانته فى البحث والفكر، ومن أصحاب الرؤية فى تصحيح الكثير من المفاهيم فى التفسير والخطاب الإسلامي، وله اجتهاداته، إلا أن البعض سعى إلى تفريغ هدف الحوار من محوره الأساسى؛ ليتحول لموقف بين مؤسستين «الأزهر، وجامعة القاهرة»، وكأن هناك حالة من الصراع بين مهام المؤسستين العلميتين، والصحيح أنه من المستحيل أن يحل أى منهما محل الآخر.
وبالبحث فى قائمة المشاركة فى المؤتمر العالمى للأزهر، فقد جاءت من ممثلين من وزارة الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس الإسلامية من ٤٦ دولة من دول العالم الإسلامي، ولكن أين جهات البحث والفكر؟! غابت هى الأخرى.
وجاء السجال أو ما أسماه البعض بـ«المناوشة» بين الدكتور «الطيب» والدكتور «الخشت»، أبرز ما فى المؤتمر، وهو ما يحتاج إلى مؤتمر آخر، وجلسات نقاش، بعيدًا عن التصفيق الذى اتسم به المؤتمر فى يوميه، فليس بالمؤتمرات فقط يتم تجديد الفكر الديني، وهو الأقرب للمطلوب فى هذه المرحلة التى شهدت حالة من اللغط بين أطراف عدة، ودخول أطراف ليس لهم ما يؤهلهم لحوار دينى يخاطب العقل والشباب الجديد المنفتح على سماوات المعلومات المفتوحة، والذى يعيش وسط حالة عالية من التدفق فى المعلومات والأفكار، وأصحاب الصوت العالي، هم الأكثر تأثيرًا فى عقول هؤلاء، وحتمًا، يخترق أصحاب الفكر المتطرف هذه السماوات المعلوماتية.
شخصيا أحترم فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، والذى شاءت الأقدار أن يأتى فى فترة حرجة تعرض خلالها للكثير من النيران الإعلامية، والثقافية والسياسية، ومن كل الجبهات، فى ظل حكم الإخوان، وفترات ما قبله بقليل، وما بعد ذلك.
ولو نعود لسنوات سابقة، فسنجد أن الدكتور الطيب أكثر من تصدى لمحاولات جماعة الإخوان، أخونة الأزهر، والسطو على أكبر مؤسسة دينية إسلامية فى العالم، ولهذا شنوا عليه حربا ضروسًا، وصلت إلى عمق داره فى الأزهر ذاته، وعلى صفحات مطبوعات تحمل اسمه وعلى جدران كليات الجامعة.
ولم يتخل الشيخ عن موقفه، بل كان بين الداعمين لثورة ٣٠ يونيو، وأول من وقف إلى جانب الرئيس السيسى، فى بيان ٣ يوليو ٢٠١٣، إبان كان وزيرًا للدفاع، وكان له موقف فى بعض القضايا الدينية، ورفض وصاية كل الحكومات على الأزهر، وهذا الموقف فتح عليه نيرانهم، وإن حاولوا استغلال بعض المواقف لإثارة الفتن.
إلا أن وسط كل هذا يبقى على الأزهر مهمة أكبر فى فتح حوار مستمر للم شمل كل الآراء المتقاربة تحت راية واحدة تتصل بتجديد الفكر الديني، خصوصا أن جانبا مهما من بيان المؤتمر تطرق لـ٢٩ قضية جدلية، تصحح الكثير من المفاهيم.
ومن أهم ما يحتاج إلى تكاتف كل الأيادى لتنفيذها هو أن التجديد صناعة دقيقة، لا يحسنها إلَّا الراسخون فى العلم، وعلى غير المؤهَّلينَ تجنُّب الخوض فيه، والتأكيد على أن التيارات المتطرفة، وجماعات العنف الإرهابية متفقة على رفض التجديد وأى مشاركة منها ستكون تزييفًا للمصطلحات الشرعية، فاستبعادهم ومن على شاكلتهم فى أى حوار واجب وضرورة.
ومن القضايا التى تحتاج إلى جهد ما انتهى إليه المؤتمر من أنه يجب تصحيح ثقافة الناس حول مفهوم الحاكمية، من خلال نشر عقيدة أهل السنة، والتأكيد على أن حكم البشر لا ينازع حكم الله، وأن الدولة فى الإسلام، هي الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة، والمواطنة الكاملة، حق أصيل لجميع مواطنى الدولة الواحدة.
وحسم قضية الخلافة أمر تقتضيه الضرورة بأن الخلافة نظام حكم ارتضاه الصحابة وناسب زمانهم، وتفعيل مبدأ أن مقاومة الفساد والغش والمحسوبية، والتفرقة الجائرة بين المتكافئين فى الفرص مسئولية دينية، وقانونية، ومجتمعية، وأخلاقية، والشائعات تمثل خطرًا شديدًا على أمن المجتمعات وتنميتها.
ثم التأكيد على أن السياحة أمر تقره الشرائع السماوية، ويجب تصحيح ثقافة الناس تجاهها، والآثار موروثٌ ثقافى خاص بتاريخ الأمم والحضارات، وليست أصنامًا ولا أوثانًا، وحق المرأةِ فى السفر دون محرم، وأن تتقلَّد كل الوظائف.
تلك القضايا وغيرها، وهو ما أكده المؤتمر فى بيانه الختامى تحتاج إلى رؤية حوارية يستمع فيه الجميع والمؤهلون لبعضهم البعض لتصبح واقعًا على الأرض.