الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأب هنري نووين يكتب: "علاقات مؤلمة وصداقات متعبة"

كتاب السعي الى الأعماق
كتاب السعي الى الأعماق
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تنتشر كثيرًا في عالمنا اليوم ظاهرة العذاب الفكري الذي يعود جزءُ منه، للأسف إلى تفكير خاطئ يوهم بأننا مدعوّون إلى مساعدة بعضنا بعضًا على إزالة وحدتنا.
فعندما تُخرجنا وحدتنا من أنفسنا وتقودنا إلى الارتماء بين ذراعى الأصدقاء القريبين منّا، نكون قد أرغمنا أنفسنا على خوض علاقات مؤلمة وصداقات متعبة ومعانقات مخنقة. وعندما نترقّب اللحظات أو الأماكن التى فيها يغيب كل ألم وشعور بالفراق ويتحول كلَ تململ بشري إلى سلام داخلي، نكون بذلك كأننا ننتظر عالمًا خياليًا. حقًا، إن توقنا العميق لتوحيد أنفسنا واكتمال ذواتنا لا يُشبَع أبدًا من خلال أيّ إنسان، سواء صديقًا كان أم حبيبًا، زوجًا أم زوجة، جماعة أم تجّمعًا بشريًا. 
وعندما نُحمّل الآخرين عبء توقّعاتنا شبه الإلهّية التى غالبًا ما نَعيها جزئيًا، نكون قد قمعنا إمكانياتنا في التعبير الحّر عن الصداقة والحبّ، وآثرنا بالمقابل مشاعر النقص والضعف. إذ لا تنمو الصداقة والمحبّة بين شخصين إذا التصق أحدهما بالآخر بتلهف زائد؛ فالصداقة والمحبّة تتطلبان الفسحة اللازمة للتحرك من شخص إلى شخص، وذلك بلطف وبدون تخوَّف.
وطالما أنّ شعورنا بالوحدة هو الذى يجمعنا بالآخر، على أمل التوصل معه إلى إزالة الوحدة، فإننا بذلك نؤنب بعضنا بعضا بسبب رغباتنا غير المحققة واللاحقيقية في توحيد أنفسنا والتوصّل إلى الهدوء الداخليّ والاتحاد غير المنقطع بالآخرين.
يحزننا حقًا أن نلاحظ بعضهم يعانون غالبًا الوحدة المتزايدة، وذلك بسبب فقدانهم المودّة في محيط عائلتهم الحميمة، فيبحثون عن الحل الأخير لإزالة آلامهم ويتطلعون بلهفة إلى صديق أو حبيب أو إلى جماعة جديدة. فبالرغم من معرفتهم الأكيدة بأنهم يخدعون أنفسهم،
لا تفتأ قلوبهم تخاطبهم:
«قد نجد هذه المّرة ما كنا نبحث عنه بمعرفة أو بدونها». يدهشنا حقًا أن نرى رجالًا ونساءً، سبق لهم أن عاشوا علاقات مؤلمة مع والديهم وإخوتهم وأخواتهم يزجّون بأنفسهم كالعميان في علاقات بعيدة المدى، متأملين تغيير وضعهم المستقبليّ تغييرًا تامًا. ثم نتساءل عن المشاحنات والخلافات الكثيرة والتهم والاتهامات المضادة ولحظات الغضب المتفجرة أو المكبوتة والأحساد غير الصريحة والسرية، التى هى جميعها غالبًا ما تكون جزءًا لا يتجزأ من هذه العلاقات المقهورة. ترى ألا تجد هذه الأمور جذورها في الادعاء الخاطئ الشائع بأنّ كل واحد منّا ملزم بإزالة ما يشعر به الآخرون من الوحدة؟
في الواقع ليس هينًا أبدًا أن نصدق ما سبق، فغالبًا ما نذهب حاملين مشاكلنا إلى رجال ونساء لطفاء متأملين سريًا أنهم سيرفعون عنّا حملنا ويحررونا من وحدتنا. وعندما نعود ثانية إلى أنفسنا كثيرًا ما نجد أن خدمة هؤلاء لنا ما هى إلا إسعاف مؤقت ويؤدى إلى عودة الآلام ذاتها بوطأة أشد.
قد اختبرت مرارًا في حياتى إحساسًا قد يبدو غريبًا، وذلك بأنى أقرب إلى أصدقائى في غيابهم منه في حضورهم. فكانت تعترينى عند غيابهم رغبة قويّة في لقائهم ثانية، ولكننى لم أستطع التغلب على شعورى بخيبة الأمل عند لقائنا.
فحضورنا الجسميّ بعضنا للآخر كان يمنعنا من التلاقى الكامل، إذ كنا نشعر كأنّ قيمتنا، بعضنا لبعض، أكبر ممّا يمكننا التعبير عنه، وكأنّ شخصياتنا الفردية كانت تقف جدارًا تخفى وراءه كياننا الشخصى في عمقه. ومن ناحية أخرى، فإن البعد الذى خلقه غياب مؤقت لهم ساعدنى على أن أرى ما وراء شخصياتهم وكشف لى عن أساس محبتنا بعضنا للآخر وسر عظمتهم وجمالهم الشخصيّ.
وفى مجال الصداقة كتب جبران خليل جبران: «إذا افترقت عن صديقك فلا تحزن، لأنّ ما أحببته فيه فوق كلّ شيء آخر، ينجلى لك أكثر فأكثر في بعده عنك، مثلما ينجلى الجبل من السهل لمن شاء أن يتسلّقه».