لا توجد أمة ليس لديها معتقد دينى أو تخلو من دين، فالبدائيون كانوا يعبدون الحجر والشجر والشمس والقمر؛ لأن الدين عبادة تقتضى عابدًا ومعبودًا، وتستلزم أن يكون المعبود مقدسا. وتشترك الديانات السماوية فى اعتقادات، تعمها الاعتراف بوجود الله، وأنه خلق وبعث الأنبياء والرسل لهداية البشر، وأن الناس سيبعثون فى اليوم الآخر يوم الحساب، ومن ثم الإيمان بوجود الله على رأس هذه المعتقدات. فالدين بالنسبة إلى «دور كايم» مجموعة موحدة من العقائد والعبادات المتصلة بالأشياء المقدسة تحكم وتوجه كل من يؤمنون بها. والمقدس هو ما يستبعد أو يحرم فالناس عندما يرتبطون بأشياء مقدسة أو يندمجون فى طقوس دينية ينتابهم إحساس بالرهبة من الشىء المقدس. من هنا تأتى أهمية كتاب «الدين والمجتمع: تحليل اجتماعى» للدكتور ناجى محمد هلال أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة بورسعيد، والصادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وإذا ما انتقلنا إلى النوع الثانى والمتمثل فى التعريفات الوظيفية للدين يأتى «ينجر»، والذى يعرف الدين بأنه «نسق من الاعتقادات والممارسات التى من خلالها تستطيع جماعة من الناس النضال ضد المشكلات المطلقة للحياة الإنسانية، مثل رفض الاستسلام للإحباط والقلق والكراهية، أو أى عداوة تحاول أن تدمر الارتباط الإنسانى للبشر. فــ«ينجر» ينظر إلى الدين على أنه بديل لليأس. أما عن التجسيدات والممارسات الحياتية للتدين فنجد أنها متعددة ومتنوعة، وفى هذا السياق حدد «ميشيل ديلون» أربعة أنماط للتوجهات الدينية فى علاقتها بالمجتمع.
1- الدين المنظم: كما يتجسد فى عدد من التنظيمات الدينية التى تتجه نحو تحقيق أهداف معينة مثل تنظيمات الطرق الصوفية، وهى تنظيمات تعرف نفسها من خلال تحديد هوية أعضائها، وتخضع هذه التنظيمات أعضاؤها لقواعد صارمة وتسخرهم نحو خدمة أهدافها.
ولقد نشأت الصوفية تلبية لحاجات نفسية واجتماعية اقتصادية سياسية لدى جماعات وجدوا بانتمائهم إلى الطرق الصوفية، وسيلة منظمة تمكن أعضاؤها من تجاوز عجزهم، كما أنها نشأت نتيجة لرفض الانشغال بالأمور الدنيوية القائمة على البذخ وهيمنة المؤسسة الرسمية. فلقد ازدهرت الصوفية فى العالم الإسلامى حين بدأت الطبقات النافذة الميل للتمتع بالثروات التى نتجت عن الفتوحات، فأقبلت جماعات من المسلمين إلى الصوفية كبديل يشدد على الزهد والتقشف فى سبيل تطمين النفس لما رأت من تحول عن الدين.
2- الدين المسيس أو الرسمى: يتجسد فى المؤسسات الدينية التى تتألف مع الدولة؛ حيث يكون للدين دور قوى فى إضفاء الشرعية على الدولة وعلى نظام الحكم السائد فيها، كما تصبح المؤسسات الدينية ورجالها الذراع الإيديولوجية لأجهزة الدولة. ويعتبر الأزهر لدى أهل السنة أهم رموز هذه المؤسسات الرسمية الدينية، بينما يعتبر النجف مركز المؤسسة الشيعية، كذلك يتمثل الدين الرسمى لدى المسيحيين العرب فى الكنائس والبطريركيات المختلفة. ومن منظور هذه المؤسسات يصدر ما يعتبر التفسير الصحيح والأصيل للمعتقدات والممارسات الدينية.
3- الحركات الاجتماعية ذات التوجه الدينى: يظهر هذا النمط من التدين عندما تتخذ بعض الحركات الاجتماعية ذات الأهداف السياسية من الدين إطارًا لها، من أجل تعبئة الناس وبث الأفكار بينهم من أجل إحداث تغيير فى الوضع القائم أو لإقامة وضع جديد. وغالبا ما تتخذ هذه الحركات لنفسها شعارات ورموزًا دينية، كما أنها تكرس صورًا من الطقوس والشعائر.
4- التدين الشعبى: يتم التعبير عن هذا النوع من التدين الشعبى فى صور مختلفة فى الحياة الاجتماعية للأفراد فى مجتمعاتهم بعيدًا عن النظم والمؤسسات الرسمية، فكل المجتمعات تعرف صورًا محلية للدين، وتعرف شخصيات دينية محلية، وغالبا ما يتعلق الناس بها ويتخذون منها أولياء لهم. ويلاحظ فى كثير من الأحيان أن صور هذا النمط من التدين الشعبى تختلط بالمعتقدات والعادات المتوارثة، ولذلك؛ فإن بعض طقوسها ليست دينية بالضرورة، وإنما تعبر عن نوع من الانصهار بين ما هو دينى وما هو شعبى. وأشار كارل ماركس إلى أن القوى السائدة فى المجتمع تميل إلى استعمال الدين من أجل تثبيت شرعيتها وتشجيع الفقراء والضعفاء على تقبل أوضاعهم المغربة فى المجتمع، والاستكانة لها بدلا من العمل على تغييرها. فما رفضه «ماركس» فى الدين هو الدعوة إلى الطاعة والامتثال على أنها قوانين إلهية. ففى رأيه أن الدين لعب دورا مهما فى تكريس السلطة القائمة، وأن الخطاب الدينى دائما ما يحاول إقناع الفقراء والعمال بقبول واقعهم ومصيرهم.
وقد جاء هذا بالطبع كانعكاس لتبادل المصالح بين رجال الدين والطبقة البرجوازية فى المجتمع الصناعى. هذا المعنى أو الفهم هو الذى جعل «كارل ماركس» يرى أن الدين «أفيون الشعوب».
لكن فى طرح نقدى لأفكار «ماركس» فى هذا الصدد، يذهب البعض إلى أن إلصاق تهم أفيون الشعوب بجوهر المسيحية، يفتقر إلى التحليل المنطقى لمضمونها. فالمسيحية تستطيع فى ظروف معينة أن تغذى الاعتراض أو الاحتجاج الاجتماعى، وأن تحرم النظام السياسى القائم من شرعيته. أضف إلى ذلك أن المسلمات الفلسفية فى منهج «ماركس» تدين تحليله، فاعتباره الدين ضمن عناصر البناء الفوقى، ومن ثم تمتعه باستقلالية ضئيلة عن البناء الاقتصادى أو التحتى، حال دون رؤية ماركس للشئون الدينية كنظام دينى مستقل، ومن ثم إعطاؤه أى قوام على أنه ظاهرة اجتماعية.