وقف الطلاب فى طابور الصباح وكُلّ منهم يرتدى المريلة البيج المصنوعة من قماش «تيل نادية» والجرافتَّات الصغيرة الزرقاء وبأيديهم الشنط الجلد إن كان والدهم مقتدِرًا أو القماش إن كانوا من أسر فقيرة ليهتفوا معًا بحماس شديد تحيا الجمهورية العربية المتحدة بعد ترديد السلام الجمهورى «والله زمان يا سلاحى..اشتقت لك فى كفاحى..إندَّه وقول أنا صاحى..يا حرب والله زمان» بعدها يتحركون لفصولهم بنشاط وبهجة فى طابور منظم على موسيقى نشيد «الله أكبر..فوق كيد المعتدى..والله للمظلوم خير مُؤيِدِ».
الزمان سبتمبر ١٩٦٢ والمكان مدرسة الإمام محمد عبده الابتدائية الحكومية والواقعة بين المزارع على امتداد شارع الثانوية بمدينة المنصورة الجميلة. كانت المدرسة الوحيدة للبنين فقط فى حى الثانوية المفعم بالمدارس وكان الطريق من منزلى بالقرب من شارع البحر إلى مدرسة الإمام محمد عبده طويلًا جدًا على طفل فى السادسة من عمره خاصة إن كان الحذاء جديدا ومن الجلد الجيد التفصيل الذى لا يلين بسهولة!
كان الفصل مزدحمًا عن آخره بعدد يتجاوز الخمسين طالبًا فى زمن فتحت فيه الدولة التعليم المجانى على مصراعيه لكل طفل فى المدن والقرى. كان بكل صف دراسى فصلان فقط لقلة المدرسين فبالمدرسة كلها عشرة مدرسين فقط خمسة منهم للمواد التعليمية وخمسة آخرون للنشاطات التى اهتمت بها الدولة وهى الزراعة والرسم والموسيقى والرياضة والتدبير المنزلى لأكثر من ٦٠٠ طالب.
بالمدرسة حوش ضخم به ملعب لكرة القدم وثلاثة عُقْلات متدرجة الارتفاع ومتوازى للجمباز ومكان للقفز الطويل ومكان للقفز العالى. وكنا نتدرب سَوِيًّا فيما يسمى «القسم المخصوص» لتقديم العرض الرياضى السنوى الضخم فى عيد الثورة والذى نُكَوِّن فيه هرمًا من أجسامنا الصغيرة من ثلاثة أدوار يقف أعلاهم أحدنا وهو يحمل علمين لمصر بنجمتيه الخضراوتين المبهرتين واللتان ترمزان لمصر وسوريا والتى كنا ننتظر فيه بشوق نجومًا أخرى من كل الدول العربية لتحقيق الوحدة العربية الكبرى. كانت الفسحة الكبيرة لمدة ساعة كاملة نُخْرِج فيها كل طاقتنا فى اللعب وكانت الفسحة الصغيرة نصف ساعة للأكل.
كانت حصة الموسيقى ممتعة فكنا نتعلم العزف على جميع الآلات وكنت أحب عزف الاكسيلفون فى طابور الصباح وكنّا ثنائى يعزف بتوافق رائع مع الطبلة الكبيرة والترنبيطة كل صباح. ومن لا يجيد العزف يعطيه أستاذ الموسيقى إما المثلث المعدنى أو الكلارانيت الخشبى لنكوِّن بذلك أوركسترا كبيرة تعزف معًا وتنشد «دقت ساعة العمل..الثورى..بكفاح الأحرار..تعلن زحف الوطن..العربى..فى طريقه الجبار» فيرد فريق منا «الثوار هم الشعب..والأحرار هم الشعب...عارفين المشوار». كان كل شىء يدور حول الانتماء والوطنية والفخر.
طبقت المدرسة نظرية الاكتفاء الذاتى والذى سمى وقتها المدارس المنتجة! فكان فى المدرسة مصنع للطباشير المربع الأبيض. نصنعه نحن كطلبة ونقطعه ونعبئه فى علب أنيقة ونبيعه لجميع مدارس المنصورة. وكان فى المدرسة حديقة جميلة وفِى وسطها منحل للعسل وكنا نبيعه أيضًا ونُلدَغ منه أحيانًا لذا كان كل منا يحمل قطعة صغيرة من القماش الصوف لنزع ذبان النحل! وكان يعلمنا الأستاذ إمام كيفية صناعة العصائر والمربات والتى كانت تبيعها المدرسة لزيادة دخلها والاكتفاء الذاتى.
كان المدخل الأنيق للمدرسين يقودنا إلى بهو به غرفة ناظر المدرسة وأحد الموظفين الإداريين وكان فى منتصف الطريق للبهو تمثال نصفى للإمام محمد عبده وكان البهو محاطًا بصور العظماء مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وجمال الدين الأفغانى والمنفلوطى والرافعى وكنا نَدرس تاريخهم العظيم فى مادة التربية الوطنية. كما كان مقررًا علينا كتابًا فى السلوك القويم يصور فيه طفلان أحدهما (واسمه أحمد) حسن السلوك فيحترم إشارات المرور ويغسل يديه وينظف ثيابه ويعبر الطريق من مكان عبور المشاه ويصحو نشيطًا فى الصباح ويرتب سريره وثيابه، والآخر لا يهتم بأى من ذلك فكنا نكره الأخير جدًا لهرجلته وابتعاده عن السلوك القويم فكلنا يتمنى أن يكون مثل أحمد.
كان للفصل محكمة من الطلاب ترتدى شريطا أخضر من الكتف إلى الخصر كالقضاة الكبار وبوسطه علم الجمهورية. وكانت المحكمة تعقد يوميًا للحكم على المشاغبين من الطلاب والعقوبة لديها تتراوح من الضرب على اليدين وحتى المدّ! وكنت رئيسًا للمحكمة وأشعر بالفخر الشديد لذلك الاختيار وكان للمحكمة اثنان من المستشارين ومحامى المتهمين ووكيل للنيابة. كانت المحكمة تتمتع بالحزم والنزاهة الشديدة وعادة ما كانت الجرائم من نوعية تقطيع المرايل أو الخناق أثناء الفسحة.
كان بالمدرسة كانتين يبيع بعض الأشياء البسيطة كالحلوى فقد كانت المدرسة توزع علينا يوميًا وجبة من الفطير اللذيذ مع الجبن الشيدر والمربة وعرفنا كبارًا أنه من المعونة الأمريكية للمدارس وكان نصيب كل منا فى نهاية العام كمية كبيرة من الدقيق الأبيض والجبن توزعها علينا المدرسة فى آخر يوم للدراسة. كان مدرس الفصل الأستاذ طنطاوى قمة فى الالتزام والأناقة. يرتدى بدلته فاتحة اللون وربطة عنقه المزركشة وكان بالنسبة لى مثلى الأعلى فقد كان يعاملنا كما الأب فيحرص على أن نتعلم ونجيد ما نتعلمه. فلقد أعطى الآباء فى هذا العصر للمدرسة توكيلًا شاملًا فى التعليم وحتى العقاب بالضرب دون مراجعة. أُصِبت بالحزن الشديد حين وصلت إلى الصف الخامس لانتهاء تدريس الأستاذ طنطاوى وأصبح علىَّ الانتقال إلى مدرسين آخرين أولهما الأستاذ السقا والذى علمنا اللغة العربية السليمة وإعرابها وقد كان كاتبًا مرموقًا وشاعرًا رقيقًا وخطيبًا مفوهًا والآخر الأستاذ فتحى مدرس الرياضيات الصارم فإما أن تجيد الرياضات أو الضرب بالعصا الخشبية المربعة والتى كانت تصيبنا بالرعب.
كانت مدرسة الإمام محمد عبده قلعة من قلاع العلم فى زمن مجانية التعليم الحكومى. فبرغم قلة مدرسيها إلا أن كل منهم كان هرمًا فى ذاته ومثالًا للإخلاص والتفانى فى عصره. تعلمنا منهم روح الجماعة والقيادة والاكتفاء الذاتى والعدل والصدق والسلوك والموسيقى والرياضة.تخرج من المدرسة العديد من الأطباء والعشرات مِمَن أصبحوا صيادلة ورجال أعمال شرفاء وضباط جيش وشرطة وقضاة. كانت المدرسة تربى جيلًا وتصنع أُمة. فحين تزرع التعليم الجيد تحصد ثروة فى كل المجالات. لقد أصابنى الحزن ومصر تتذيل الآن دول العالم فى جودة التعليم بل أصبحت أخيرًا غير مصنفة على الإطلاق عالميًا. ووزير التعليم الحالى يبذل جهدًا خارقًا لإصلاح ما يمكن إصلاحه من تجريف التعليم ولكن فى يقينى أن مصر لن تنهض من كبوتها أبدًا إلا إذا أعادت مدرسة الإمام محمد عبده بكامل صورتها المجانية والحكومية لكل حى وقرية من أنحاء مصر وبلا تفرقة بين جميع الطلاب. فلنتحسر سويًا على ما أضعناه وكان بين يدينا ونحاول الآن وبجدية أن نتقدم لعلنا نصل يومًا إلى ١٩٦٢ لنضاهى مدرسة الإمام محمد عبده!!