تخيلت لو أن السجال العنيف حول "تجديد الخطاب الدينى” الذى جرى بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة، كان قد دار قبل ٨٠ عامًا بين د. طه حسين (ابن الأزهر) وبين شيخ الأزهر آنذاك.. ماذا كان حينها سيكون شكل المواجهة بين الرجلين؟!
وماذا كان يتوقع من رد فعل الجامعة المصرية، المثقفين وقتها تجاه "وصلة التعنيف" القاسية التى تلقاها د. محمد عثمان الخشت رئيس الجامعة العريقة (جامعة طه حسين)؟!
قبل ٨٠ عامًا كان طه حسين قد ألقى بحجره الكبير في الحياة الثقافية المصرية عندما كتب "في الشعر الجاهلى"، ثم "مستقبل الثقافة المصرية"، وفى ذلك الحين كانت البلاد تعيش عنفوان النهضة المصرية في كل مجالات العلوم والفنون، وكان المجتمع المصرى ينفض عن نفسه غبار قرون الجهل والفقر ويتطلع لحقبة ما بعد الاستقلال الذى حدث بالفعل بعدها بسنوات ليطلق المصريون (من العشرينيات إلى الستينيات) عصرًا جديدًا من الاستنارة والحداثة.. في التعليم وفى المجتمع وتطوير حياة المصريين في كل المجالات.
ووقتها كان العميد طه حسين هو أول من حذر من "خطر" التعليم الأزهرى، وقال إن الأزهر وظيفته علوم الدين أما الجامعة المصرية فمهمتها البحث في علوم الدنيا وتدريس الفنون والآداب والطب والهندسة.. وغيرها..!
وحينها رأى الرجل أن خلط الدين (الثابت) بالعلوم الطبيعية الدنيوية (المتغيرة) سيغرق الأمة في فوضى تعليمية، وفى النهاية سوف يكسب رجال الدين بما يملكون من حقائق مطلقة، وسوف يهزم رجال العلم على قلتهم وضعف حجتهم أمام مفاهيم الثقافة الدينية السائدة والكاسحة!.
وخاض طه حسين معركة تاريخية طاحنة، وقف معه فيها مفكرون عظام أمثال لطفى لسيد، الذى استقال ومعه مجلس أساتذة جامعة القاهرة عندما أقالت الحكومة طه حسين في مارس ١٩٣٢ من عمادة كلية الآداب ليعود مظفرًا محمولًا على أعناق الطلاب..
ولم تكن الدولة في هذه المعارك ظهيرا وسندًا طول الوقت لطه حسين وطليعة المثقفين من مؤيديه، كانت تتحرك دائمًا حسبما تميل كفة ميزان القوى، مرة تنحنى أمام التحديث والتغيير ومرات أخرى تستسلم للأزهريين دعاة التشبث بالتراث القديم!
وكما أهدر المتطرفون في أزمنة لاحقة دم نجيب محفوظ وفرج فودة الذى قتلوه في أكبر ميادين القاهرة، ومن بعده نصر حامد أبوزيد الذى كفروه ونفوه بعد أن فرقوا بينه وبين زوجته.. كانوا قد رموا أيضًا طه حسين بالكفر وخرج ضده طلبة الأزهر ذات يوم في مظاهرة طالبت بإقالته من وزارة المعارف (يسقط الوزير الأعمى!!)..
وما أشبه الليلة بالبارحة!
أعادنا هجوم شيخ الأزهر على رئيس الجامعة المصرية إلى مشهد الصراع الأزلى الذى لم تحل عقدته حتى الآن بين المؤسسة الدينية حامية تراث السلف وبين مؤسسة التعليم التى وظيفتها الأولى البحث العلمى والعلوم الحديثة ومواكبة تقنيات العصر.
وربما قراءة ملامح هذا المشهد تكشف أمامنا حقائق مزعجة وتطرح تساؤلات عميقة الدلالة:
هل عصبية شيخ الأزهر ورده القاسى على رئيس جامعة القاهرة عندما طالب بضرورة تحديث علوم الدين أولًا، تنم عن موقف قوة أم عن ضعف لمؤسسة الأزهر التى تواجه في السنوات الأخيرة عاصفة من الانتقادات سواء لخطابه أو مناهجه وتعليمه، كما يواجه في الوقت نفسه موجة شكوك متنوعة ومتصاعدة بين الشباب حول دوره، ومواقفه، وفتاواه، وتأثيره وخصوصًا أن هناك الآن من يطالب الأزهر بإعلان موقف واضح وحاسم من: (الوهابية - داعش وأخواها - الهيمنة التركية والخلافة الإسلامية.. وغيرها )!
وهل دفاع الطيب عن خلطة التعليم المدنى بالدينى الحالية في الأزهر، يعنى رفض المساس بالكيان التعليمى الهائل للأزهر ورفض تحديث علومه، خاصة علومه الدينية والفقهية بما يتناسب مع العصر والعقل؟!
ثم هل سخرية الشيخ الطيب من «بتوع الحداثة اللى صدعونا» يمكن أن تفتح الباب أمام صدام كبير بين جموع المثقفين ومؤسسة الجامعة المدنية المصرية من جانب وبين الأزهر وترسانة المدافعين عنه من جانب آخر.. وإلى أين يمكن أن يؤدى بنا هذا الصدام بين الثابت والمتغير، أهل التراث في مواجهة أهل العلم ودعاة التنوير؟!
.. كتبت هنا قبل أسبوعين بمناسبة الدعوة لمؤتمر عالمى لتجديد الخطاب الدينى، وتساءلت عن جدوى تسليم المهمة للأزهر وفيه من يرفضون التجديد أساسا، بل من ليس من مصلحتهم أى تجديد؟، وطالبت بأن يتولى المهمة مفكرون ومثقفون وأساتذة في شتى فروع العلوم دينية ودنيوية وأدباء وفنانون وباحثون في علوم المستقبل وكل من له مصلحة في تجديد الفكر وفى تحديث الأمة والانتقال بها إلى عصر جديد يلاحق المتغيرات الهائلة في التكنولوجيا وما توصل إليه العقل البشرى من نظريات جديدة في فهم الكون وحماية البشرية من مخاطر الطبيعة والفيروسات المتحولة والأمراض الفتاكة ونقص الغذاء وتغير المناخ وتداعيات الحروب وموجات اللاجئين الخ..
وما حدث من تعنيف قاس وجهه بلا هوادة فضيلة شيخ الأزهر إلى أستاذ جليل ومسئول عن أكبر جامعة مصرية لمجرد أنه تجرأ على الخوض في مسألة التراث والتفرقة بين ما هو إلهى وبين ما هو بشرى، يعتبر حدثًا خطيرًا وكاشفا ولا يجب أن يمر بدون وقفة فكرية كبرى تعدل الميزان المائل وتعطى للخائفين على مستقبل مدنية الدولة وأجيالها القادمة فرصة إجراء حوار شامل ومفتوح مع الأزهر ورجاله، حوار للمستقبل.. قبل فوات الأوان!، حوار ترعاه الدولة ولا تتردد فيه من إعلان انحيازاتها بصراحة وشجاعة!.
الآن وليس غدًا.. لمصر كلها وليس لقلعة الأزهر الحصينة وحدها!.