تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
توقفنا في المقال السابق عند الحاكم البابلى نبوخذ نصر، الذي قضى تماما على دولة يهوذا، وفى عصره كان الله قد أرسل لهم نبيا يدعى (أرميا)، والذى دعاهم إلى نبذ القتل والفرقة والعودة إلى الحق، فهم في ذلك الوقت كانوا يقتلون بعضهم البعض في صراع دموى رهيب للوصول إلى الحكم، وجاء (أرميا) ينبههم ويدعوهم إلى الله الواحد الأحد، ويذكرهم بالتوراة وبموسى عليه السلام، وراح يحذرهم من غضب الله وسخطه فكذبوه وضربوه وسجنوه، فقال لهم: «إن الله تعالى سوف يسلط عليكم ملكًا جبارًا قاسيًا نزع من قلبه الرأفة والرحمة يخرب بيوتكم ويقتل أولادكم ويشتتكم»، لكنهم لم ينصتوا اليه، وجاء نبوخذ نصر الذى كان يطمع في توسيع أرض بلاده، وكان يحاول القضاء على نفوذ الدولة الأشورية فتقدم بجيشه نحو مملكة يهوذا وقام بحصارها ثم دخلها عنوة، فقتل ثلث أهلها وسبى الثلث، وأمر بتشتيت الثلث الأخير، وقام بهدم بيت المقدس وحرق التوراة، وخرب المبانى وأحرق الدور والزرع، وصارت أرض كنعان، كما كانت تسمى قديمًا أو يهوذا كما كان مسماها آنذاك، مرتعًا للسباع والوحوش وامتلأت السماء بالغربان، وحمل نبوخذ نصر من أورشليم خزائن وأموالًا لا حد لها وعاد إلى بابل ومعه سبعة آلاف غلام من بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف وبنيامين، وأكثر من أربعة وعشرين ألفا من بقية الأسباط، وأمر نبوخذ نصر بإخراج النبى أرميا من السجن، وهكذا خرج بنو إسرائيل من كنعان، فنزلت طائفة منهم الحجاز وطائفة يثرب وطائفة وادى القرى، وذهب شرزمة منهم إلى مصر، وأخرى إلى اليمن، ويؤكد الدكتور جمال حمدان في كتابه «اليهود»، أن عددًا منهم هاجر غربًا نحو المغرب، حيث يدعى اليهود الذين يسكنون الجبال اليوم ويتكلمون البربرية أن أجدادهم تركوا كنعان أو فلسطين بعد الغزو البابلى بقيادة نبوخذ نصر، ويقول الدكتور جمال حمدان «أما الأغلبية المطلقة منهم فقد بقيت في العراق؛ حيث كونت مستعمرات مهمة نمت حتى بلغت في عهد المسيح مليونًا، بل وأكثر من المليون في القرون التالية، إبان العصور الإسلامية، وقد امتد انتشار اليهود في العراق شمالًا إلى كردستان»، والحقيقة أنه ليس من السهل التأكد من عدد الذين شتتوا بالضبط، ولكن المؤكد أن عددًا كبيرًا قد خرج من مملكة يهوذا إلى الحجاز ويثرب ومصر ومنهم الساسة ورجال الدين والعمال والفلاحين وبعض الفنيين، وإن كان أغلب أصحاب الحرف قد أخذهم نبوخذ نصر إلى دولة بابل، تماما مثلما فعل سليم العثمانى حين غزا مصر في 1517، ومن المؤكد أيضا أن اليهود قد تمكنوا من الاحتفاظ بهويتهم وتميزهم الروحى في كل البلاد التى نفوا إليها، وقد امتد هذا الشتات أو النفى قرابة سبعين سنة، وقد عملوا بالزراعة والتجارة والصناعة وكانوا يعيشون في سلام وأمان بين أفراد المجتمعات الأخرى، ولم يحدث ما يعكر صفو العلاقات بينهم وبين الشعوب التى استقبلتهم، مما فتح أمامهم أبواب العمل في الوظائف الحكومية وفى الجيش وفى مختلف المهن والحرف، وفى سنة 559 قبل الميلاد، تولى حكم فارس كسرى يدعى «كورش»، وكان لكورش دوره الكبير في تاريخ اليهود؛ حيث كان الضعف قد حل بالإمبراطورية البابلية، فبعد وفاة مؤسسها نبوخذ نصر نشب الصراع على السلطة داخل الأسرة المالكة، ومات ابن نبوخذ نصر مقتولًا على يد شقيق زوجته، ثم تآمر على القاتل تابعه الذى كان يدعى نبونيدس، والذى تمكن من الاستيلاء على الحكم ليصبح آخر ملوك الإمبراطورية البابلية بعد أن حكمها سبعة عشر عامًا، وكان نبونيدس مهتمًا بالمسائل الدينية والروحية أكثر من اهتمامه بالقضايا السياسية والمعارك الحربية؛ حيث كان يعبد القمر، وأقام في مدينة حران السورية معبدًا للقمر، وبينما كان مشغولا بالعبادة استطاع كورش الفارسى توحيد فارس تحت قيادته، وفكر في إتمام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط بأكمله فخرجت جيوشه من فارس، وعبرت نهر دجلة ودخلت في معارك قصيرة مع البابليين الذين أعلنوا استسلامهم للبطل الجديد كورش. وأصبحت فلسطين أو أرض كنعان خاضعة للفرس دون قتال، ولما دخل «كورش» مدينة القدس أعلنها مدينة للجميع، وأعلن موافقته على عودة الشعوب المشتتة إلى ديارها، وهكذا سمح كسرى كورش بعودة اليهود مرة أخرى إلى أرض كنعان، غير أن يهود الشتات الأول – وحسبما تؤكد معظم المصادر التاريخية – كانوا قد تأقلموا على حياتهم الجديدة وأوطانهم الجديدة، فلم يعد إلى أرض كنعان أو فلسطين إلا أقلية منهم لا تجاوز الخمسين ألفًا، ومات كسرى كورش ليخلفه ابنه قمبيز، والذى أكمل طريق والده وقرر السيطرة على بلاد الشرق الأوسط القديم، فذهب بجيشه غربًا نحو مصر وبالفعل نجح في احتلالها، وبعد ذلك ازدادت أطماعه في استخدام الأساطيل لغزو جزر اليونان، ليظل الأمر سجالا بين فارس واليونان حتى ظهر الإسكندر المقدونى في عام 323 ق.م.
وللحديث بقية..