«ريادة مصر في المنطقة». كليشيه نحته وكرره على مسامعنا لسنوات طويلة وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف..
وظلت حكاية «الريادة» تلازمنا في كتاباتنا وفى خطابنا العام الموجه لأنفسنا ولشعوب المنطقة من حولنا حتى ابتلعناه وصدقناه وأصبحت العبارة شبه مقدسة كالهرم وأم كلثوم وعبدالناصر..، وأى حد يمس الريادة أو يشكك فيها نعتبره عاقًا مارقًا انهزاميًا وربما كافرًا بالتاريخ والعياذ بالله!
أقول قولى هذا بمناسبة من يتباكون هذه الأيام على «ريادة» ضاعت في السياسة والاقتصاد وحتى في العمالة الماهرة التى كانت لنا اليد الطولى فيها لسنوات طويلة ثم تراجعت حتى أصبحنا نقرأ إعلانات تقول مطلوب ١٠ سباكين و٢٠ حارس عمارة و٣٠ عاملة منزل للعمل بدولة خليجية..!
هكذا وصل بنا حال الريادة في مجالات عدة، والأسباب كثيرة وقديمة ويطول شرحها!.
أما عن الريادة في السياسة وما يقال عن «التراجع» في قيادة المنطقة والتخلى عن الانخراط في قضاياها المصيرية، فهذا في رأيى يشبه النواح على قتيل شبع موتًا، فلا القضايا ما زالت هى القضايا «المصيرية»، ولا العرب صاروا عربًا واحدًا بل «عربات» معقدة المصالح والمذاهب، عربات مقطعة أوصالها غارقة في أوحال من صنع أيديها، ولن تستطيع مصر وحدها ولا أى قوة في الكون أن تصلح مسارها أو تنقذها من مصيرها المحتوم!.
إذن.. فالريادة في السياسة (بمعناها الذى اختبرناه في الستينيات والسبعينيات) لم تعد مطلوبة، بل صار المطلوب هو أن تبدأ بريادة «نفسك» أولًا.. أن تقود بلدك، وتصنع سياساتك وتوجهها لمصلحة شعبك أولًا.
وانظر حولك واسأل نفسك بصراحة: من يهتم بما يجرى في العراق غير العراقيين؟!.. ومن يشغل نفسه في أى دولة عربية بما يحدث في اليمن أو لبنان؟!.. من هى الدولة العربية المهمومة بسوريا وبإنقاذها من الدمار الشامل؟.. لا أحد!!.. المشغولون بسوريا فقط هم من يريدون اقتسامها ويوزعون أشلاءها لخدمة مصالحهم وتكريس نفوذهم.. روسيا، تركيا، وإيران بالطبع لدواعى الحرب المذهبية التى تخوضها مع السعودية!..
أما الريادة في الاقتصاد.. التجارة والصناعة والزراعة والاستثمار، فنحن ما زلنا ندفع ثمن تركه الإهمال الطويل وفشل السياسات العربية التى أخفقت في إقامة سوق عربية مشتركة، وفشلت حتى في تعلم الدرس من أوروبا في توحيد العملة وفتح الحدود والجمارك وغيرها.. وسوف تحزن - إذا ما كان في الحزن بقية - عندما تعرف حجم المبادلات التجارية والاستثمار بين الدول العربية مقارنة باستثمارات العرب ليس في أمريكا بل في الصومال وأوغندا!.
كيف يمكن لأى ريادة أن تتحقق في منطقة تفضل الغريب على الشقيق ؟!، دول انكفأت على نفسها!.
إن الريادة الوحيدة التى حققناها وطبقت سمعة المصريين فيها الآفاق منذ قرن من الزمان وحتى الآن، هى الريادة في الفن والثقافة..
واسمحوا لى ألا أقول (التعليم والطب والهندسة والقضاء والبحث العلمي).. لأن هذه المجالات تراجعت في مصر نفسها وأصبحت تراوح مكانها وتعانى للمحافظة على مجدها وسمعتهاالقديمة!.
ريادتنا الحقيقية يمكنك أن تشهد بقاياها هذه الأيام في معرض الكتاب هى ريادة في الفن والثقافة،.. السينما والمسرح والغناء والكتاب، والمثقفون والمفكرون والشعراء.. نهر هادر خالد زاخر بأسماء عظيمة في كل هذه المجالات، تسمع عنهم وعن أعمالهم المجيدة في العواصم العربية.. تسمع من تلاميذهم الذين أصبحوا نجومًا وحكامًا ومسئولين ومبدعين كبار. في تونس هناك إذاعة خاصة لأم كلثوم وعبدالوهاب، في المغرب يسألونك هناك عن فرقة رضا، وفى الجزائر يدرسون للتلاميذ في المدارس يوسف شاهين الذى صنع لهم فيلمًا هز ضمير أوروبا (جميلة بوحريد).. وقبل يومين أوجعت قلبى مكالمة من صديق جزائرى كان يعزينى ويعزى بلدى في وفاة الفنانة ماجدة الصباحى التى يعتبرونها هناك مواطنة جزائرية.
ومن ساحة الفن ولا شيء آخر صنعنا هذا الرباط الإنسانى والحضارى مع شعب الجزائر(الذى للأسف ضاع في مباراة كرة قدم)!.
ومن يقول إن فريد الأطرش وأسمهان وصباح وفايزة وسعاد محمد ليسوا أبناء مصر المبدعة الطيبة التى احتضنت كل من جاءوا إليها عشاقًا لفنها فأصبحوا نجومًا زاهرة وسفراء للفن المصرى في العالم كله؟!.. ومن ساحة الفن الواسعة، قل ما تشاء عن الأدب والفكر والثقافة، السينما والمسرح الذى عرفته المنطقة على يد رواد عظام.. من جورج أبيض ويوسف وهبى لزكى طليمات أبو المسرح في الخليج..
وعندما نشاهد ما يفعله الآن فنانون وكتاب مصريون في الفعاليات الفنية والحضارية التى تغير وجه السعودية.. غناء ومسرح وسينما وثقافة، يحق لنا أن نفخر بما نحن فيه أشطر من غيرنا، يحق لنا أن نتباهى بأعظم اختراع أهداه شعبنا للمنطقة وكنا فيه وما زلنا روادًا حقيقيين غيرنا به خريطة المنطقة حضاريا لزمن طويل وصنعنا من خلاله وجدانًا وذوقًا مصريا خالصا نتمنى أن نحافظ عليه.
إن الفن والثقافة يا سادة، هى الساحة الأحق بأن نواصل بحق صناعة التاريخ فيها، فهل ندرك حقًا ما نملك بقاياه القليلة في أيدينا ؟.. هل نتوقف عن أعمال التشوية العبثية الغبية المنظمة التى تحدث بإصرار غريب منذ سنوات في هذا المجال؟!.