يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراح علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات.. استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا في أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا – دائمًا – كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عامًا من الأخلاق...
الواقع- الآن- في عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من إنسانيته.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدى التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
الجيش المصرى على أبواب إسطنبول وقائده يستأذن في عزل سلطان تركيا
قبل أن نتوجه إلى جنبات معارك الجيش المصرى متوجها إلى إسطنبول من الأحرى أن نتعرف على ما سطره قادة أوروبا العسكريون مادحين عظمة الجندية المصرية، فقد أذاع المسيو دوين شهادة أعظم مارشيلية فرنسا حيث مدح قائلًا: «إن حملة 1838 تُشّرف إبراهيم باشا وتُعلى من شأنه، ويقينى أن الملمين بالشئون العسكرية والخبيرين بها يعترفون معى بأن تلك الحملة لا يتناولها أقل انتقاد وأن قيادتها بنيت على أسلوب حكيم وقاعدة متينة وهمة عالية، والنقد الوحيد هو أنه في المعارك الثلاث الكبرى بينه وبين الترك استخدم منذ بدء القتال صفوفه الثانية وجيوشه الاحتياطية، ولكن يدفع هذا اللوم عنه ويجعله في جانبه يقينه برداءة الجيوش التركية، وهنا لنا وقفة أمام «النقد» هو أن استخدام القائد إبراهيم للصف الثانى من الجيوش المصرية في معاركه الثلاث أمام جيش الباشاوات بمعارك حمص وحماة، وجيش رشيد بمعركة قونية، وجيش معركة نصيبين، وجميعهم من أعظم بل وكل عتاد تركيا العسكرى وجميعهم- أيضا- منى بالهزيمة الساحقة من ذاك الصف الثانى من الجيش المصرى، أى جيش هذا الذى يحارب وينتصر بصفه الثانى؟ وما حجم توقعات أوروبا من هذا الجيش بعد هزيمة رجل أوروبا الضعيف؟ ربما نعود للإجابة المنطقية من توحد أوروبا مع رجلها الضعيف حفاظا على موروثات كل مملكة وإمبراطورية وقيصرية وجمهورية، ودفاعا عن أطماعهم في تلك الرقعة المترامية الهزيلة بلا جيش حقيقى، وربما كان الجيش المصرى ذو المهابة سببا حقيقيا من الاتحاد السياسى الأوروبى خلف السلطان محمود المهزوم لتحويل هزيمته العسكرية إلى نصر سياسى- زائف- يثبت أوضاع الخلافة الإسلامية الجغرافية إلى حين!
ونعود إلى مجريات المعركة التى تحرك إليها الجيش المصرى من قونية، حيث موقع انتصاره على جيش رشيد باشا الصدر الأعظم وقائد العسكر السلطانى، ويراسل إبراهيم باشا والى مصر لاستئذانه في التحرك إلى إسطنبول: «اليوم 20 يناير 1838 بدأ الجيش ووحداته بالزحف من قونية.. « ويسترسل: «أنه لا توجد قوة تقاومنا حتى إسطنبول» ويعلل القائد بما يراه لوالى مصر: «وهذا يدل الدلالة الكافية على أنهم قد وضعوا الآن جميع آمالهم بالصلح»، وهنا يبدأ قائد الجيش المصرى قراءة المشهد لوالى مصر: «أنه ما دام السلطان محمود المشئوم على العرش لا يمكن أن يكون هناك صلح صحيح، ولا نهاية للأزمة، لأنه سيكون عرضه للظروف، ينتهزها للانتقام ويعمل لها كما كان في الماضى وللجور على هذه الأمة الإسلامية التعسة وظلمها» ويستحلف قائد الجيش والى مصر بحق كونه حاميا للأمة العربية والأمة الإسلامية بأن يتخذ والى مصر ما فيه صون وحماية للعرب والمسلمين من مغبة بقاء السلطان التركى على عرشه متحكما في حال العرب والمسلمين بالظلم والجور: «فبحق حبنا لهذه الأمة وبحق غيرتنا الدينية أرى من الواجب المحتم علينا لا العمل لمصلحتنا فقط، ولكن العمل فوق كل شىء وقبل كل شىء لمصلحة هذه الأمة كلها، ومن أجل ذلك يجب علينا أن نرجع إلى القرار الأول، أى خلع السلطان المشئوم» ويثبت القائد المحنك لوالى مصر السبب في استغلال النصر العسكرى بخطوة سياسية فاصلة وهى خلع سلطان تركيا: «حتى يكون ذلك بمثابة محرك يحرك هذه الأمة من سباتها العميق» ويجعل نصر الجيش المصرى واقعا لا محال من تغيير أثره في الواقع السياسى الأوروبى: «فإذا اعترضّت على بأن أوروبا تعترضّنا، قلت لك إننا لا ندع لها الوقت للتدخل، وبذلك نتقى الخطر من ذلك الجانب، لأن مشروعنا ينفذ قبل أن يُعرف، وبذلك نضع أوروبا أمام الأمر الواقع» وهنا يوضح لوالى مصر ما يعلمه الوالى يقينا: «وهل باستطاعتنا أن نمنعها عن تحقيق خطة تسعى لتحقيقها منذ 84 سنة؟» وينتهى خطاب القائد لوالى مصر بسؤال يفوح منه التعجب والاستنكار والتعجب من الإبقاء على حاكم تركيا ونحن نملك عزله، والاستنكار من إهمال مطامع أوروبا في الأمتين الإسلامية والعربية الخاضعتين تحت ذاك الحاكم المشئوم.
وفى التالى إن شاء الله سنوالى مفاوضات الجانبين في استقلال مصر وسيطرتها على أضاليا وأدنه وقبرص.