السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

نهاية الخليفة الواهم.. وسقوط الإمبراطورية البائسة "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يوجد أدنى سبب لوجود العثمانيين الجدد في ليبيا والاتفاق مع فايز السراج ذى الأصول التركية سوى محاولة إحياء الأطماع الجديدة لدولة؛ فقدت كل مقوماتها وبدأت في الانكشاف سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا؛ فمن الناحية السياسية فشل الخليفة الواهم رجب طيب أردوغان في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى رغم تقديمه كل فروض الولاء والطاعة للاتحاد الأوروبى ودوله المختلفة، وانضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلنطى وإنشاء قاعدة «أنجرليك» على الأراضى التركية، ليرضى الحلف والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن كل ذلك فشل في أن يُرضى أردوغان أسياده ويساعدوه في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو الحلم الذى راود العثمانيون الجدد منذ عقود.
وقد انكشفت تركيا اقتصاديًا بعد هبوط قيمة الليرة التركية في العاميْن الأخيرين بعد نضوب البترول الرخيص الذى كانت تنقله الشاحنات التركية من آبار النفط في المناطق التى كان يسيطر عليها تنظيم «داعش الإرهابي»، علاوة على الأزمة الأمريكية التركية بعد احتجاز تركيا لقسٍ أمريكي، وطلب الولايات المتحدة الإفراج عن هذا القس، إلا أن أردوغان رفض طلب الأمريكان، فما كان من ترامب إلا أن كتب «تويتة» على «تويتر»، ينتقد فيها تركيا، ويهددها بفرض عقوبات مؤلمة، فانخفضت قيمة العملة التركية، وكاد الاقتصاد أن ينهار حتى أفرجت تركيا عن القس الأمريكى صاغرةً ذليلة.. تخيلوا اقتصاد دولة ينهار بتويتة واحدة على السوشيال ميديا.
ويتمثل الانكشاف الاجتماعي في تركيا في الأحوال الاجتماعية السيئة التى يعشها الشعب التركى الذى يرزح تحت نير حكم أردوغان، ولعل هذه الأحوال هى التى أدت إلى زيادة معدلات الانتحار في الدولة التى كانت تباهى العالم بمتوسط دخل المواطن فيها، وكانت تمثل النموذج للدول العربية في إنجازاتها الاقتصادية، فإذا بهذه الأحوال الاجتماعية تتردى وتتزايد معدلات البطالة، وأصبح المواطن التركى لا يأمن على غده ومستقبله، لدرجة أن هناك أُسر كاملة تنتحر في تركيا بعد انهيار فرص العمل وارتفاع تكاليف المعيشة، وعلاوة على ذلك زادت معدلات الدعارة في تركيا لدرجة أنه لا يخلو شارع في أنقرة واسطنبول من بيوت الدعارة وبائعات الهوى.
كل هذا ولا يزال حُلم الخلافة يسيطر على الخليفة الواهم، الذى تساقطت أحلامه مرتيْن؛ مرة في عدم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى ليكون جزءًا من هذا الاتحاد، ومرة ثانية عندما وصلت جماعة «الإخوان» إلى الحكم في مصر، حيث أيقن أنه يستطيع من خلالها السيطرة على مصر والشمال الأفريقي ليعيده تارةً أخرى إلى حظيرة الدولة العثمانية، وهو الحلم الذى حطمه الشعب المصرى عندما قام بثورة 30 يونيو 2013.
ولحُلم الخلافة تاريخ طويل؛ حيث حلم بها كثيرون، فقد بدأت حركات الإسلام السياسى بمفهومها الحديث في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وقيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا على النمط اﻷوروبى، وإلغائه لمفهوم الخلافة الإسلامية في الثالث من مارس 1924، وتعطيل العمل بالشريعة الإسلامية، وقيامه أيضًا بحملة تصفية ضد كثير من الرموز الدينية. ويرى رفعت السعيد أن قيام أتاتورك بإنهاء الخلافة ترك بصمات بالغة الأهمية في مصر، وعلى مفكريها وسياسييها، فبعد أربعة أيام فقط من قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة اجتمع بعض علماء الأزهر، وأصدروا بيانًا أعلنوا فيه بطلان ما قام به الكماليون – نسبة إلى كمال أتاتورك - لأن الخليفة قد بويع من المسلمين ولا يمكن خلعه.
لكن موقع الخليفة الشاغر أسال لُعَابَ كثيرٍ من الحكام المسلمين كل منهم ينشد المنصب لنفسه، ومن أمثلة هؤلاء الحكام الملك أمان الله ملك الأفغان، والملك حسين بن على ملك الحجاز، وكان هنا أيضًا الملك فؤاد الأول ملك مصر الذى تحصن بالثقل الحضارى والثقافى لمصر وبأزهرها الشريف وسارع بالمطالبة بالخلافة، وهنا تغير موقف بعض شيوخ الأزهر فنسوا بيعة الخليفة المخلوع واهتموا بطموحات الملك فؤاد، وقرروا دعوة ممثلى جميع الأمم الإسلامية إلى مؤتمر يُعقد في القاهرة برئاسة شيخ الأزهر، للبحث فيمن يجب أن تُسند إليه الخلافة، وحددوا شهر شعبان من العام التالى لانعقاده، ودارت عجلة الإعداد لهذا المؤتمر مستمدة حماسها من حماس الملك فؤاد وشغفه بأن يكون خليفةً للمسلمين.
وفى ربيع أول 1343- أكتوبر 1924 صدرت نشرة سُميت «المؤتمر»، وأعلن أصحابها أن الهدف منها هو الدعوة لحضور المؤتمر وإنجاحه وتحديد أهدافه، وفى صدر العدد الأول من هذه النشرة نُشر مقالٌ للشيخ رشيد رضا يؤكد ضرورة عقد المؤتمر لأنه «أول مؤتمر إسلامى عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من كل الأمم الإسلامية، خاصةً أن مهمته هى وضع قواعد للحكومة الإسلامية المدنية التى يظهر فيها عُلو التشريع الإسلامى واختيار خليفة وإمام للمسلمين»، لكن قوى عديدة تكاتفت لإفشال هذا المؤتمر، فالملوك تنافسوا على موقع الخليفة، والدول التى كانت تحكمها الخلافة تسارعت إلى إعلان قيام كِيانات وطنية، والقوى الاستعمارية سيطرت على عديدٍ منها، وكان هناك في مصر رئيس وزراء شديد العداء للفكرة هو سعد زغلول، أما حلفاء الملك فؤاد في حزب الأحرار الدستوريين؛ فقد كانوا بسبب موقفهم الليبرالى خصومًا للفكرة، وكتبت جريدتهم (السياسة) «أن الدستور ينص على أنه لا يجوز لملك أن يتولى مع مُلك مصر أمورَ دولةٍ أخرى بغيرِ رضا البرلمان، ومن ثم يتعين ترك بحث هذه المسألة للسياسيين، وأن يَعْدِلَ علماءُ الأزهر عن دعوتهم لهذا المؤتمر».
وفى صحيفة «السياسة» لسان حال حزب «الأحرار الدستوريين» كتب «الشيخ على عبد الرازق الذى كان ينتمى للحزب نفسه مقالًا كشف فيه كل أوراق اللعبة، مؤكدًا «أن الحماس للخلافة ليس حماسًا للإسلام، وإنما مساندة لمطامع الملك فؤاد»، كذلك شنت الصحفُ الوفدية حملاتٍ ضارية على المؤتمر وعلى فكرة الخلافة ذاتها، وكان انعقاد المؤتمر في 13 مايو 1926 إشهارًا لوفاته. 
ولم تزل حتى عصرنا الحديث تستخدم فكرة الخلافة، برغم إصرار كبار الفقهاء على رفض الفكرة وعلى رأسهم في العصر الحديث الإمام محمد عبده الذى قال «إن الإيمان بالله يرفع الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، وهى دعوى القداسة والوساطة عند الله، دعوى التشريع والقول على الله دون إذن الله، فالمؤمن لا يرضى أن يكون عبدًا لبشرٍ مثله»، ومع ذلك وحتى بعد أن اختفت دولة الخلافة العثمانية ظل موضوع الخلافة محل جدل، بل وحاول البعض إقامتها تبعًا لذات الفكرة التى أوحت لحاكم مدينة صغيرة أن يسمى نفسه أميرًا للمؤمنين.
لكن وهم الخلافة يبقى، بل ويتحقق لأمير آخر في أفغانستان هو «الملا عمر» ثم ينتقل إلى طامع آخر في لقب الخليفة هو أبو بكر البغدادى زعيم إرهابيى تنظيم داعش، وتمثل جماعة «الإخوان» الإرهابية إحدى أهم القوى المعاصرة التى تنادى بفكرة الخلافة وضرورة بعثها، وقد أقامت تنظيمًا دوليًا على نمط الخلافة المنشود كان يهدف إلى إعادة الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين بتولية رجب طيب أردوغان خلافة المسلمين، وهو الوهم الضائع الذى هوى بأردوغان والدولة التركية في أغوارٍ سحيقة لا قاعَ لها.. لتبقى تركيا دولة بلا هوية.. فلا أتاتورك استطاع أن يجعلها دولةً أوروبية تأخذ بالحداثة، ولا استطاع أردوغان والعثمانيون الجدد أن يجعلوها دولةً إسلامية بأن يُعيد إليها الخِلافةَ.