سنوات التيه بين شعارات الثورة ورايات ما يُسمى الإسلام السياسى التسع الماضية كانت كفيلة بتجاربها المريرة،لإكساب الشعب الليبى خبرة سياسية جعلته الأقدر على قراءة حقيقة المواقف الدولية والإقليمية إزاء ما يحدث في البلاد منذ أحداث 17 فبراير 2011.
هذه الخبرة كانت الدافع وراء قرار القبائل الليبية والمجالس المدنية بإغلاق المنشآت والموانئ النفطية ووقف تصدير البترول الليبى قبيل انعقاد مؤتمر برلين بيوم واحد، ليبعث برسالة قوية إلى العالم مفادها (الليبيون من سيحسمون أمر عاصمتهم).
فقد أدرك الليبيون أن مؤتمر برلين لن يختلف كثيرًا عن المؤتمرات والاجتماعات التى سبقته سواء في باليرمو أو باريس أو غيرهما،لذلك لجئوا إلى السلاح القادر على ضرب مصالح الأطراف الدولية والإقليمية المتنازعة في مقتل،ومن ثم التأثير في مواقفها التى طالما تناست ما عاناه الشعب الليبى طوال السنوات التسع الماضية من انتشار للسلاح والميليشيات والجماعات الإرهابية.
نتائج برلين لم تأت مخالفة كثيرًا لما توقعه الشعب الليبى؛ فرغم تأكيد البيان الختامى للمؤتمر على التزام الدول المشاركة بعدم التدخل في الشأن الليبى والتورط في الصراع العسكرى الدائر، وعدم إرسال أسلحة بموجب القرارات الأممية بحظر السلاح على ليبيا، إلا أن البيان لم يشر من قريب أو بعيد إلى الاتفاقين الأمني والبحرى الذى قامت حكومة ميليشيات الإرهاب برئاسة فائز السراج بإبرامهما مع الرئيس التركى رجب طيب أردوغان،مع أن الاتفاقين جاءا مخالفين لبنود اتفاقية الصخيرات، علاوة على مخالفة الاتفاق البحرى للقانون الدولى.
كذلك لم يضع مؤتمر برلين مدى زمنيا محددا للتوصل لاتفاق دائم لوقف إطلاق النار، وأوكل تلك المهمة إلى ما سماها لجنة خمسة زائد خمسة التى تضم خمسة من كل طرف-الأول الجيش الوطنى الليبى فيما الثانى ميليشيات حكومة السراج الإرهابية- وقد تجاهل برلين الحديث عن الصعوبات التى تواجه عمل مثل تلك اللجنة حتى لو نجح المبعوث الأممى إلى ليبيا غسان سلامة في اختيار خمسة شخصيات من العسكريين المحترفين خريجى الكليات والأكاديميات العسكرية الليبية، ليمثلوا ميليشيات السراج؛ ففى نهاية الأمر قد تورط كل من عمل مع تلك الحكومة غير الشرعية في علاقات وطيدة مع قادة التنظيمات والجماعات الإرهابية المتحالفة معها، إضافة إلى تورطها في ارتكاب جرائم حرب ضد أبناء الشعب الليبى.
وهناك صعوبات بالغة في فك ارتباط أولئك القادة العسكريين مع قادة المليشيات، وليس من المتصور أن يقبل أمراء الإرهاب في طرابلس بأى اتفاق يقضى بتفكيك الميليشيات وملاحقة العناصر الإرهابية لمحاكمتهم أو تصفيتهم؛بمعنى آخر أنه في حال توصل قادة بعض الكتائب الموالية لحكومة السراج المليشياوية إلى اتفاق مع القادة الخمس الذين سيمثلون الجيش الليبى؛فعلى الأرجح ستندلع المعارك بينهم وبين قادة الجماعات المُدرجين على قوائم الإرهاب.
وظنى أنه من الصعوبة بمكان حدوث توافق بين أعضاء لجنة خمسة زائد خمسة العسكرية،لأن رقاب ومصالح من يمثلون السراج هى في الواقع في يد قادة الميليشيات والجماعات الإرهابية، إذا أخذنا في الاعتبار إصرار الجيش الليبى على تفكيك تلك الميليشيات، ومواصلة الحرب على العناصر الإرهابية.
ومن الضرورى الإشارة في هذا السياق إلى أن فائز السراج نفسه خاضع من اللحظة الأولى لقدومه إلى العاصمة طرابلس لقادة وأمراء العصابات الإجرامية والجماعات الإرهابية،كما عجز أو عزف عن تنفيذ بنود اتفاقية الصخيرات التى ألزمته بتفكيك الميليشيات وملاحقة الجماعات الإرهابية المتواجدة في طرابلس،وعلى العكس من ذلك تركها تتقاسم أحياء العاصمة تفرض الإتاوات وتمارس كل أعمال السلب والنهب،بل والقتل ضد المدنيين وراح يستجيب لتهديداتها ويمنحها ما شاءت من أموال؛وهو ما تجسد في أبريل الماضى مع بداية حرب تحرير العاصمة عندما منح قادة الجماعات الإرهابية والعصابات الإجرامية أكثر من 50 مليار دينار ليبى ليصطفوا معه في حربه القذرة ضد الجيش الوطنى الليبى.
إضافة إلى ذلك تعرض فائز السراج ومقر مجلسه الرئاسى للحصار والقصف أكثر من مرة من قِبل تلك الميليشيات،لإجباره على تقديم المزيد من التنازلات،بل إن شوارع ومحاور العاصمة شهدت غير مرة عدة اشتباكات مسلحة بين تلك الفصائل في سياق تنازعها على حصتها إما من أموال المصرف الليبى،أو السلاح القادم من تركيا.
وفى رأيى أن ما سماه مؤتمر برلين بالمسار الأمني سيفشل لإصرار القوى الدولية على توصيف الأزمة الليبية باعتبارها صراعًا سياسيًا على السلطة لا أزمة أمنية ويعضد هذا الرأى استحالة تنفيذ ما دعا إليه بيان المؤتمر بشأن إعلان القوات الموالية للسراج انفصالها عن الجماعات الإرهابية؛فقد صار هناك ارتباط عضوى بين كل تلك الميليشيات والكتائب المسلحة.
وما يسرى على المسار الأمني مرشح للتكرار بالنسبة للمسار السياسى؛فطبقًا لبيان مؤتمر برلين تجتمع أربعين شخصية ليبية في جنيف خلال أسابيع من بينها 13 شخصية ممثلة لمجلس النواب الشرعى برئاسة المستشار عقيلة صالح،و13 شخصية تمثل المجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشرى أحد عرابى اتفاق الخيانة مع أردوغان لجلب المرتزقة السوريين،ووفق المحلل السياسى والكاتب المتخصص في الشأن الليبى محمد فتحى الشريف؛ فإن أغلب تلك الشخصيات ينتمون لجماعة الإخوان الإرهابية،وهناك شكوك حول باقى الـ14 شخصية عامة الذين سيختارهم المبعوث الأممى غسان سلامة.
ما يعنى أن التوافق على تشكيل مجلس رئاسى جديد وحكومة وطنية تحصل على اعتراف مجلس النواب الليبى أمر تحوطه الشكوك؛فمن ناحية لن يقبل ممثلو مجلس النواب أن يضم المجلس الرئاسى أو الحكومة الجديدة شخصيات تنتمى إلى هذه الجماعة الإرهابية التى كانت سببًا رئيسًا في فتح أبواب ليبيا مُشرعة أمام التمويل القطرى والسلاح التركى،علاوة على المرتزقة السوريين،بخلاف تحريض عناصرها والمنتمين إليها الدائم على محاربة الجيش الليبى،وتكفى هنا الإشارة إلى فتاوى القتل والإرهاب التى لم يكف عن إصدارها المفتى المعزول صادق الغريانى عبر قناة تناصح التركية،إضافة إلى ارتباطها القوى بعناصر تنظيمات داعش والقاعدة وما شابهها من جماعات إرهابية تقاتل إلى جانب السراج.
أضف إلى ذلك تبعية مجلس الدولة وأعضائه للسياسة التركية إزاء ليبيا والتى تسعى للحفاظ على استمرار جماعة الإخوان الإرهابية، كلاعب سياسى رئيسى يعمل على تمرير مصالحها.
وبالإشارة إلى الـ14 عضوا الذين سيختارهم غسان سلامة،جدير بالذكر أنه انحاز في كثير من الأحيان لرؤية السراج وميليشياته، حتى إن أغلب المراقبين فسروا انحيازه، بوجود مخاوف حقيقية على حياته التى قد يفقدها على يد إحدى الجماعات الإرهابية، خاصة أنه بالكاد كان يعترف بوجود إرهابيين يقاتلون إلى جانب السراج، بل إنه عزف عن إدانة أردوغان لقيامه بإرسال مرتزقة وعناصر إرهابية خطرة من سوريا للقتال في طرابلس، ورغم وجود قرار من مجلس الأمن يحظر تصدير السلاح إلى ليبيا يمكنه من إدانة إرسال أردوغان سفن محملة بمختلف أنواع الأسلحة،فوجئنا به يصرح عقب مؤتمر برلين أنه الآن فقط يملك ورقة يستطيع بها محاسبة أردوغان ويقصد توقيع أردوغان على بيان برلين، التى تنص مادته الخامسة على عدم التدخل في ليبيا والالتزام بقرار حظر السلاح وتحسين مراقبته.
ما يؤكد صحة قرار الشعب الليبى باستخدام سلاح النفط ضد المجتمع الدولى،استمرار الصمت الدولى على انتهاك راعى الإرهاب الأول رجب طيب أردوغان لكل القرارات الأممية بما فيها بيان برلين من خلال استمراره في عملية إرسال المرتزقة السوريين إلى ليبيا عبر مطارى مصراته ومعتيقة؛ فطبقًا للمرصد السورى بلغ عدد المرتزقة السوريين في ليبيا 2400 مرتزق وجار إعداد 1700 آخرين في معسكرات تابعة للجيش التركى فيما تواصل مكاتبه في المدن السورية استقبال المقاتلين المرتزقة الطامعين في المزايا المالية التى أعلن عنها جيش أردوغان الإرهابى مقابل القتال في ليبيا والتى حددها بـ2500 دولار كراتب شهرى و35 ألف دولار تُصرف كتعويض في حالة مقتله؛ وهى المبالغ التى أثارت حفيظة عناصر ميليشيا كتيبة الردع المتواجدة داخل قاعدة معتيقة،التى فوجئت بأن راتب المرتزق السورى يبلغ من أربعة إلى خمسة أضعاف راتب المقاتل الليبى؛وهو ما قد يثير حالة من الفوضى قد تصل إلى الاشتباك المسلح مع المرتزقة السوريين.
قرار الشعب الليبى باستخدام سلاح النفط سيعمل على تغيير المواقف الدولية التى بدت حريصة على الاستثمارات في هذا القطاع الحيوى من خلال بيان برلين وما تبعه من عدة بيانات أصدرتها الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وغيرها،كما أنه سيكون عنصرًا حاسمًا في شل حركة المليشيوى فائز السراج ذلك أنه في الوقت الذى يمتنع فيه عن توفير الأموال اللازمة لأكثر من 90% من المدن الليبية التى قام بتحريرها الجيش الوطنى الليبى،يقوم بإنفاق عائدات النفط على قادة وعناصر الجماعات الإرهابية والمرتزقة السوريين والضباط والجنود الأتراك،ويُذكر في هذا السياق أن الصحف الروسية نشرت فضيحة حصول أردوغان وبعض أقاربه على أكثر من مليار دولار من ليبيا بخلاف تعويضات مزعومة يسعى للحصول عليها.