«يا حجاركم يا مجاركم».. عنوان مقدمة كتابى عن حكايات براك/ الشاطى (جنوب ليبيا) والكتاب حكايات شعبية للصغار والكبار، جُمعت ووثقت من أفواه راوياتها كما هى دون حذف أو إضافة بل وبلهجتها المحكية، تمنح سامعيها وقُرائها اطلاعا، أو بحثا ودراسة، صورا جلية عن مخيلة تستعيد موروثها الذى هو مخزون ديانات (ما قبل التوحيد)، ومخلوقات عجائبية فيها قواسم مشتركة مع عناصر الكائنات الخرافية التى نتشاركها مع العالم حاملة لقيم خيرة أو شريرة، وبعض بنية الحكايات معبر واضح لملامح أماكنها، وما ارتبطت بإنسانها من ظروف اجتماعية واقتصادية من خلال ثقافة الجماعة في منطقة (براك الشاطئ) فقد سربت الراويات أسماء لشخصيات مقيمة، ووافدين، وعيون الماء، ومناسبات مناخية وصحية وزراعية، كما وترفق حكيها بأنه معادل لحكاية حصلت بالمكان حتى وهى لا تربطه بتاريخ محدد لكنها تتناقل مايسمعه الناس، وكانت رحلتى لجمع الحكايات والبحث فيها كأول دراسة أكاديمية ليبية في الموضوع، ضمن مُتطلبات أطروحة جامعية تكشفُ القيم والموروثات الاجتماعية ما تعج بها حكاياتنا التى ما زالت مهمشة ومقصية من حيز الانشغالات البحثية الأكاديمية رغم مرور قرن ونيف على بروز مناهج تاريخية وجغرافية وسوسيولوجية وسيكولوجية ومورفولوجية ووظيفية، وما انبرى لاحقا من نظريات بنيوية وسيميوطيقية واعتماد كثير من الدول لأكاديميات وأقسام مُتخصصة للدراسات الشعبية حفاظا على الهوية الوطنية، في بلادنا التى يتشكل فيها مخزون الإرث الحكائى على تنوع جغرافيتها وبيئاتها، والتى أيضا تمنح خصوصيتها للمتن بين بحر وواحات وصحراء، وما يؤسف له ونحن نتأخر عن الجمع الميدانى ومن ثم الدراسة البحثية، كوننا نفقد على مر السنين حملة وحفظة تراثنا الشعبى في عمومه، والقص الشعبى بخاصة بعد غياب طقسه وأجوائه.
ومن واقع تجربتى الميدانية ورغم دأب بعض الروايات على استحضار مناخات السرد إلا أن ما لمسته عند معايشتى التوثقية لهن (التسجيل الصوتى ) تركهن مثلا - وربما غير قصد- للازمتى الاستهلال والختام، وتحرج بعضهن بل وعزوفهن عنهما والدخول في القص مباشرة، رغم ما كانت تحظى به من مكانة كراوية تلتزم طقس الروى - فيما مضى -عندما يتقصدها الأهالى طلبا لخراريفها التى تعمر ذاكرتها فتُقبل عليهم مُحتفية، ومالكة لأدواتها المُشبعة بجماليات المُتعة والإفادة.
ولنا أن نشير إلى حاجة الباحث والدارس للحكاية الشعبية الليبية، إلى عدد وافر أو نماذج كافية للتدليل على الخصوصية المحلية لبيئة وملفوظ الحكاية (ومنها الاستهلال والختام)، وتبيان الفروق بين البيئات والمناطق الجغرافية التى انبثقت ونبعت منها الحكاية.إذ إنه من الطبيعى أن تنسج أحداث الحكاية من خلال أبطالها وشخوصها المتعددة مُتخدة من الحيز المكانى والبيئى مرجعا وعلامة لها، حتى أن بعض الحكايات الشعبية ومن خلال التجربة كثيرا ما تُدلل على مكان حدث مُعين مُستندة إلى ما يعرفهُ السامعون وما آلفوه داخل محيطهم من أمكنة ويكون ذلك تقصدًا لتصير عوالم الحكاية ابنة البيئة ومتوافقة ومتصلة بالظروف الحياتية التى يبصرونها ويتعايشون معها، وما يُعلل ذلك فرادة الحياة المجتمعية في كل مجتمع بشرى، وخصوصيتها فحكاية أى مجتمع أو أى بيئة هى قبل كل شىء نتاج البيئة، ونمط العلاقات الاجتماعية، ومخزون بعض من صور وشخصيات تاريخها، ومن الظلم والإجحاف الحكم أو التحيز للجماعة مُنتجة الحكايات الشعبية وإطلاق استنتاجات عامة لتشمل حيزًا مكانيًا آخر (ما جرى من آراء رأت أن بداية الحكاية في الغرب الليبى ياحزاركم تُفضى إلى إلزام أن تتشابه البدايات معها رغم جغرافيا القارة الليبية!)، ما لم يتم جمع ورصد ودراسة نتاجهُ الحكائى، والكشف عن مضامينه حتى وإن تشابهت الحكايات في طرح أفكارها الرئيسية إذا ما تعلقت بقيم مجتمعية سادت كالصراع بين الأخوة، والغيرة وظلم زوجة الأب، والزوجة المسحورة، والصديق الخائن، فإن كلا من عوالمها ومكوناتها فيما سيرد من حكايات يتباين فيما يتم طرحهُ من المخيلة الجمعية من معضلات اجتماعية.