الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سياحة غريبة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تستطيع أن تتصفح العالم الآن بينما تقرأ مقالى هذا، بل ويمكنك أيضًا أن تبلغ رضاك أو سخطك عما تراه فى أى مكان لمجموعات متفاوتة الأحجام من البشر، فأنت فى عصر التواصل الاجتماعى بلا حدود ولا طبقات، بل لم يعد هناك مصدر للأخبار الآن بشكل حرفى مهما حاولنا أن نبحث عن الأخبار من مصادرها، لأن هذه النقاط التى نظنها مصادر البشر تتلقى أخبارها أحيانًا من جهات ليست احترافية، والسياحة تتجه الآن لتلك اللاطبقية بشكل كبير ويشبه حركة الخبر فى زمن التواصل الاجتماعي. لم تعد لوزان سويسرا هى نقطة السياحة الأولى عالميًا فى الشتاء للاستمتاع بالتزلج على الجليد، أو الشمس الخجولة فى المقاهى المنتشرة على الهضبات المكسوة بالأبيض. صار من حقك الآن أن تبحث عن السياحة غير التقليدية «Extra Tour» وستجد أن هناك الكثير الذى لم تفعله بعد وبأسعار استثنائية الرخص. لا تنسَ أننا الآن فى عالم تعانى كل أجزائه ضعف القدرة على شراء كل شيء إلى حد كبير وصل للكساد فى كثير من مناطقه التى لم تعرف الكساد قبلًا.
ستطالعك باريس فى المقدمة كما توقعت تمامًا بسياحة غريبة الاسم والتفاصيل «سياحة المجاري»! حين صممت مدينة باريس فى بدايات إنشائها أقيمت فوق شبكة من الأنفاق الحجرية والأسمنتية الواسعة، كى تتحرك فيها مجارى المياه فى أوقات الاستخدام العادى والأوقات الطارئة فى حال هطول الأمطار الكثيفة جدًا، إلا أن تطور نظام الصرف الصحى فى المدينة دفع القائمين على المدينة إلى هجر تلك الأنفاق التى عدلت حتى صارت على طابع عصر النهضة كباريس نفسها حتى اليوم فى الغالبية العظمى من أجزائها. إذن لم يكذب أرسين لوبين حين أخبرك أن كل مكان فى باريس يمكنك أن تصل إليه تحت الأرض تمامًا كما تصل إليه فوق الأرض. ستجد مجموعات من السائحين يصحبهم مرشد ورجل أمن تحت الأرض. وستتخيل الرجل البطريق مع مجموعاته من الطيور، وأنت تسمع صدى صوت محدثك وتستشعر الرطوبة المحيطة بك فى أحجار الجدران، رغم أن المكان حافل بلافتات إرشادية ووحدات إضاءة أنيقة تسمح للجميع بالتقاط الصور التذكارية فى المجارى بسعادة.
منذ فترة حين قرأت عن سياحة الصعلقة دُهشت كثيرًا، لكننى استأت أيضًا، فسياحة الصعلقة تمارسها بعض شركات السياحة التى تتيح لعملائها قضاء وقت فى دولة يختارونها بطريقة المتسولين والفقراء المشردين الذين لا مأوى لهم. فتجد السائحين يدفعون أموالًا كثيرة من أجل النوم تحت أحد الكبارى ملتحفين ببطانية صوفية خشنة لا تقى من البرد. وعندما تستمتع لتعليقات هؤلاء السائحين تستغرب من سعادتهم البالغة لخوض التجربة، وأعود وأقول: (للناس فيما يعشقون مذاهب). وانتعشت هذه السياحة حول جسور أوروبا التى يتخذ المتسولون من تجاويفها السفلية مقرًا للمبيت كجسور النمسا حول الدانوب، وسور نهر السين الحجرى الشهير.
وربما كان هناك نوع آخر غريب من السياحة هو سياحة الاحتجاجات العمالية الذى يظهر بين الحين والآخر فى (وول ستريت) بأمريكا فقط؛ حيث تجد السائحين يقفون جنبًا إلى جنب مع العمال المحتجين يلتقطون الصور ويظهرون التعاطف مع العمال، كما أن السياح لا يفوتون فرصة زيارة البيوت التى تشتهر بسكنى الأشباح نتيجة لحدوث جرائم قتل فيها على سبيل المثال، ويتحدون الخوف ويمارسون طقوسًا جديدة، كما تجد مجموعات من السائحين يسافرون على سفينة مليئة بمحترفى الكلمات المتقاطعة لمدة عشرة أيام نحو جامعة الكلمات المتقاطعة فى الكاريبى التى أسسها ستان نيومان حيث يحتفون بهوايتهم ويتبادلون المعلومات.
يأتى عدد من السائحين لقرية تونس فى الفيوم كل خريف فقط لمشاهدة أفراد أسر مصرية توارثت صناعة الفخار المصرى الأخضر وهم يصنعونه. يمكنك فى أى وقت أن تدق باب أى منزل فى هذه القرية ليستقبلك أحد سكانه بابتسامة ويدخلك بترحاب فى غرفة منفصلة غالبًا عن المنزل بشرفة خارجية، يخرج أدواته لتبدأ إحدى فتيات المنزل فى صناعة آنية فخارية منذ الصفر فى سعادة ومهارة أمامك، وأنت تصور الأمر كله فى توثيق للحظة جميلة، فالسيدات فقط يتوارثن هذا الأداء هنا. تعرض المعروضات الجميلة فى مهرجان خريفى يحج إليه عشاق الفخار المصرى من أماكن مختلفة من العالم. فهو مهرجان الفخار أو مهرجان مدام إيفيلين كما يعرفونه.
فالسياحة فى جوهرها اطلاع على جديد. هى تعلم ومغامرة. والسائحون يدفعون الكثير من أجل تجربة وقت لم يختبروه من قبل أيًا كان هذا الوقت، تمامًا كتجربة طعام جديد ولكنه طعام شديد التأثير وشديد الامتداد لأكثر من مجرد رشفة أو قضمة. عباءة ترتديها وتحجب عنك كل ما سواها، لهذا ربط البشر بين السياحة والسفر (سواح وماشى فى البلاد سواح)؛ حيث السفر يفصلك عن عالمك المعتاد ويحملك إلى عالم جديد، وكأنك تخرج من كل ما اعتدت عليه، لذا يلجأ الكُتًّاب للسفر من أجل الكتابة، ويطلق البعض على ذلك (تغيير دم). لكن ألا يمكنك أن تغير كل ما حولك وأنت فى مكانك فتشعر بالسياحة؟!.. ألا تعتبر مقطوعة موسيقى جديدة سياحة بهذا المفهوم إن أثرت فيك جدًّا؟! وألا يعتبر ثوب جديد يغريك بالحركة والقفز سياحة؟! وألا يعتبر الحديث مع شخص مختلف عن كل ما تعرف سياحة؟!.. السياحة حياة جديدة تساعدك على رؤية نفسك بطبعة جديدة. إنه التغيير الذى يقتله الروتين اليومى للحياة كل يوم. التغيير الذى يجعلك تفكر فى الحياة التى تحلم بها كشيء قابل للتحقيق.. ففى الوقت الذى تشعر فيه بقدرتك على تغيير أشياء بسيطة فى حياتك ستؤمن بتغيير الأمور الكبيرة.. اجعلها سياحة داخل نفسك إن لم تتمكن من جعلها سياحة خارجها.. فالسياحة كمفهوم ليست حكرًا على أحد.. وكتاب جميل قد يكون أفضل من رحلة عام كامل.