دلائل رمزية ورسائل قوية تأتى دورة معرض القاهرة الدولى للكتاب الـ 51 محملة بها، مع اختيار ذكى لشخصية معرض الكتاب وهو العالم الجغرافى الراحل جمال حمدان، بعد مرور 27 عاما على رحيله، وكذلك اختيار السنغال ضيفه شرف، بالتزامن مع رئاسة مصر للاتحاد الأفريقي.
عدة رسائل يمكن أن يستشفها المثقف والسياسى بل ورجل الشارع العادي. اختيار صاحب «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان» يوجه عدة رسائل أهمها أن مصر تعرف جيدا مكانتها وقوة موقعها الطبيعى على خارطة العالم، فكما قال حمدان: «مصر هى «ملكة الحد الأوسط» و«سيدة الحلول الوسطى» وفسر ذلك بأنها «أمة وسط فى كل شيء وسط فى الموقع والدور الحضارى والتاريخي، فى الموارد والطاقة، فى السياسة والحرب، فى النظرة والتفكير».
مصر بحسب حمدان لديها الموهبة الطبيعية لتبقى حيوية عبر العصور إنها «فلتة جغرافية» لا تتكرر فى أى ركن من أركان العالم. وبالطبع لكل «فلتة» عدو أو ثلة أعداء، ومصر لديها الكثيرون. اليوم اسمحوا لى أن أعيد معكم قراءة الرسائل المهمة التى يحملها كتاب «شخصية مصر» والتى يرد بها حمدان على كل تساؤل يشغل المصريين وإخواننا العرب على السواء.
يشير حمدان إلى أن النيل كان مصدرا لكيد العداء لمصر فقد خنقت البرتغال مصر بطريق رأس الرجاء الصالح، وفكرت من قبل أن تخنقها عبر أعالى النيل، وأقنع أحد المغامرين البرتغاليين ملك الحبشة «أثيوبيا» ببرستر جون شق مجرى من منابع النيل الأزرق ليصب بالبحر الأحمر وتترك مصر تموت جفافا؛ لتصبح من الواحات المفقودة التى يحتفظ التاريخ بكثير منها!. لكن هذا المشروع «الفاوستى الجهنمي» لم يتم، وإنما يتم بطريقه أخرى الآن عبر «سد النهضة»!
عادت الفكرة فيما بعد على يد الاستعمار البريطانى وتم استغلال السودان لذلك الغرض، ثم حدث ذلك أثناء أزمة قناة السويس، ويفند بعد ذلك حمدان أحقية مصر التاريخية فى مياة النيل كمصب طبيعى للنهر، يعترف به القانون الدولى والشرعية الجغرافية معا. وهنا يؤكد حمدان أن دول المنبع لديها حصصها التى تكفيها بقانون الطبيعة وأن ما يزيد ويفيض عنها تحتم الطبيعية الهيدرولوجية تساقطه نحو المصب دون احتكار من مصر لذلك، وبالتالى يمكن أن نتأكد أن تخزينا زائدا عن الحاجة لهذه الدول لن يفيد!! فالطبيعة تجبر النيل على الارتماء فى أحضان مصر واللجوء إليها.
الرسالة الأخرى التى يؤكد عليها جمال حمدان فى كتابه شخصية مصر هى أن مصر متعددة الأبعاد الحضارية والثقافية لذا كانت مهد الحضارة، لافتا إلى اكتشاف العلماء لتأثيراتها الحضارية على الصحراء الكبرى وبعض القبائل بنيجيريا وغرب أفريقيا. فمهما حاول الاستعماريون فيما مضى زرع فتائل الكراهية لمصر لا يجدى ذلك أبدا! أفلا تتفكرون!
ومن المبهر حقا أن نجد حمدان فى كتابه الأيقونى «شخصية مصر» الذى صدر فى يونيو 1967 ردا على حجج أردوغان وتدخلاته فى ليبيا، فيقول: «دخلت مصر مع الليبيين فى احتكاك بعيد المدى بالغارات والحملات، وبالتسرب والتوطن، سواء فى غرب الدلتا أو جبهة الفيوم والصعيد. بل وأسسوا إحدى الأسرات فى تاريخ مصر!»
ويشير إلى أن النفوذ السياسى المصرى كان قد وصل إلى برقة أيام البطالسة والعرب، فمصر كانت بوابة التعريب للمغرب العربى كله، وإلى اليوم تمثل قبائل أولاد على حلقة الوصل بين مصر والمغرب العربى فالامتداد البشرى والاجتماعى لم ينقطع منذ قرون سحيقة.
لماذا علينا أن نقرأ مرات ومرات «شخصية مصر»؟ّ! إنها إجابات وتحليلات وافية لكل ما حدث ولا زال يحدث ويحاك لمصر، يقول حمدان إن موقع وتاريخ مصر حتم من قبل ويحتم عليها مسئولية الدفاع عن العروبة وذلك استمر منذ حروب التتار والحروب الصليبية وحتى الاستعمار الأوروبى ومرورا بالاستعمار الإسرائيلي. قالها من قبل حمدان «مصر هى قلعة العرب» الأبعاد الأسيوية والأفريقية لمصر ليست مناورة أو تكتيكا سياسيا بل هى عناصر أصيلة فى كيانها الحضارى والتاريخي.
فى كتاب «شخصية مصر» يرد حمدان منذ عشرات السنين على تبجح أردوغان» ليس أكثر من تركيا نقيضا تاريخيا وحضاريا لمصر كقوة «شيطانية» مترحلة، اتخذت من الأناضول وطنا لها بالتبنى وبلا حضارة هي، بل كانت طفيلية حضارية خلاسية استعارت حتى كتابها من العرب. غيرت جلدها أكثر من مرة، الشكل العربى استعارته، ثم بدلته بالشكل اللاتينى، والمظهر الحضارى الأسيوى نبذته وادعت الوجهة الأوروبية!! وها هى الآن تحاول التودد لأمريكا تارة ولروسيا تارة بعد أن فشل مشروع انضمامها للاتحاد الأوروبي.
حمدان يقول لنا إن مصر خضعت من قبل للاستعمار التركى المتوارى تحت ستار الدين، ليخدر العرب ومن ثم ما لبثوا أن وقعوا فريسة للاستعمار الأوروبي، وحاولت سوريا أن تنفض عنها الاستعمار العثمانى فى العشرينيات من القرن العشرين ومن بعدها مصر ونجحت بفضل رجالها ونسائها فى ذلك. احتضنت مصر السوريين أثناء هروبهم من بطش السلطان العثمانى واحتضنتهم ثانية وسوف تظل منبرا للعروبة وحامية لها. يريد أردوغان أن يعيد دوائر التاريخ مرة أخرى ولبس عباءة السلطان العثماني، لكنه نسى أن مصر أقوى من الزمن، وعليه أن يقرأ تاريخ 7 آلاف سنة عساه يفهم أو يتعظ!