بعد حكم استمر نحو نصف قرن، عُرف خلاله بالحكمة، في معالجة القضايا الإقليمية والدولية، رحل عن دنيانا سلطان عمان، قابوس بن سعيد.. والذى توفى بعد مسيرة حافلة بالعطاء شملت عمان، وأثرت في العالمين العربى والإسلامى وكذلك الدولي.
ارتبط اسم السلطان الراحل، بعقد المصالحات وخفض الأزمات الدولية واتبع سياسة الحياد الإيجابى والحلول الدبلوماسية الهادئة، وكان يأمل دائمًا عودة الأمة العربية إلى سابق مجدها ووحدتها.. ونالت هذه السياسة احترام العالم أجمع، وأطلق عليه «صديق الجميع».
ونجح السلطان قابوس في احتلال مكانة مميزة له في قلوب الشعب المصري، بسبب مواقفه التى لا تنسى تجاه مصر وشعبها مهما مرت السنين.. فخلال حرب السادس من أكتوبر 1973، أصدر السلطان قابوس، مرسومًا يقضى بالتبرع بربع رواتب الموظفين لدعم مصر، وإرسال بعثتين طبيتين عمانيتين لمصر، واحتفظت السلطنة بعلاقات طيبة مع بلادنا، ولم تتخذ موقفًا سلبيًا، عقب زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات للقدس عام 1977، ولم تقاطع القاهرة عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل.. واعتبر أن المقاطعة العربية لمصر لا تصب في مصلحة العرب، بل تشكل عائقًا أمام العمل العربى المشترك، في الوقت الذى يجب على الأمة العربية أن تتوحد لتحقيق الأهداف العربية المشتركة.. وهو موقف نابع من شعور السلطان الراحل بالمسئولية تجاه أمته العربية، وناتج من إحساسه بالانتماء لها.. فلقد سخر السلطان جهوده لخدمة وطنه ورفعته، ودعم قضايا الأمة العربية والإسلامية، وكان محبًا للأزهر الشريف، وداعمًا للعلم والمعرفة.
وفى كلمة ألقاها في احتفالات العيد الوطنى الـ 14 للسلطنة عام 1984، قال السلطان قابوس بن سعيد، لقد ثبت عبر مراحل التاريخ المعاصر، أن مصر عنصر الأساس في بناء الكيان العربي، ولم تتوان يوما في التضحية من أجل الدفاع عن قضايا العرب والإسلام.. وخلال لقاء تليفزيونى له، قال إن العرب أمة كبيرة لكن تلك الأمة لا تساوى شيئًا بدون مصر.. مثل قطعة الخبز التى تتناثر، لذلك لا بد أن يبنى النسيج بين العرب ومصر على تلك القاعدة، أننا أمة كبيرة وأن مصر هى الزعيم.
وربطت السلطان قابوس بمصر وأهلها علاقات طيبة، منذ 50 عاما، هى فترة توليه الحكم، والتى بدأت في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات.. ففى نوفمبر 1973، استقبل الرئيس الراحل محمد أنور السادات بالزى العسكري، في المطار، السلطان قابوس بن سعيد، ونزل الأخير من طائرته مرتديا زيه العسكرى أيضا، اعتزازا بنصر أكتوبر المجيد، وأدى السلطان، التحية العسكرية للرئيس محمد أنور السادات كونه القائد الأعلى للجيش المصرى المنتصر حديثا في الحرب على إسرائيل.
وحتى بعد رحيل الرئيس السادات، احتفظ السلطان قابوس بعلاقات طيبة بمصر وتعددت زياراته إليها ففى عام 1982، زار قناة السويس، ومر من نفق الشهيد أحمد حمدي، وتفقد بعض المنشآت بمدينة السويس، وحصل على مفتاح السويس كهدية تذكارية من الدولة المصرية.. كما زار الجامع الأزهر الشريف، وأدى صلاة الجمعة فيه، وكذلك زار دار الأوبرا المصرية.. وأطلق اسم السلطان الراحل على أحد الشوارع الرئيسية بمدينة شرم الشيخ، والتى كان يقضى بها قابوس أجازته أحيانا.
وخلال المؤتمر الاقتصادى عام 2015، بمدينة شرم الشيخ، أعلن ممثل السلطان قابوس دعم مصر بمبلغ 500 مليون دولار، مساهمة في دعم وتنمية الاقتصاد المصري، عبارة عن 250 مليون دعما للسيولة النقدية المالية، و250 مليون دولار استثمارات مباشرة.. كما استقبل السلطان الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال زيارته للسلطنة، وسط حفاوة بالغة عند بوابة قصر مسقط، وتجول الرئيس مع السلطان في سيارته بموكب مهيب وسط الخيول العربية وعازفو الموسيقى وحاملو الأعلام.
وُلد السلطان قابوس في صلالة بمحافظة ظفار في 18 نوفمبر عام 1940، وهو سليل أسرة آل سعيد التى تحكم عمان منذ عام 1749.. تابع تعليمه المدرسي في صلالة، إلى أن التحق بأكاديمية «ساندهيرست» العسكرية الملكية في بريطانيا وهو في العشرين من عمره، وتخرج السلطان فيها بعد عامين برتبة ملازم، ثم خدم في ألمانيا ضمن فرقة عسكرية بريطانية لمدة عام.. وعند توليه الحكم في 23 يوليو 1970، كحاكم ثامن في سلالة آل سعيد، أطلق مرحلة من التحديث بدأت بتصدير النفط، وغير العلم والعملة، وأطلق خطة إصلاح واسعة، تضمنت بناء مدارس ومستشفيات ويكفى أن نعلم أنه عند تولى السلطان قابوس الحكم، كان في عمان 3 مدارس فقط، وكان مستوى الأمية 66 % من الشعب، وكانت عمان من أفقر البلدان في المنطقة، إلا أن سياسة السلطان الراحل قفزت بالناتج المحلى الإجمالى من 256 مليون دولار عام 1970، إلى أكثر من 80 مليار دولار عند رحيله.
والسلطان قابوس غير متزوج، وليس لديه أشقاء، وتوفى عن عمر 80 عامًا بعدما حكم لمدة 50 عامًا متواصلة، ليصبح صاحب أطول فترة حكم في التاريخ العربي.. رحم الله السلطان الراحل، وتغمده برحمته وأدخله فسيح جناته، ووفق الله السلطان هيثم بن طارق بن تيمور، لما فيه خير عمان والأمتين العربية والإسلامية.