أفزعنى عم عبده البقال وهو يقول بلامبالاة تشبه اليأس: والله يابيه بطلنا نشوف تليفزيون!!.. ولما سألته ليه يا عم عبده؟!.. قال باقتضاب: “مفيش حاجة تبسط يابيه”!
والمزعج إن ناس كتير - زى عم عبده- يرددون الكلام نفسه منذ سنوات، والحالة تتسع كل يوم وفى ازدياد بل وأصبحت تمثل مشكلة لقنوات التليفزيون وللعاملين في المهنة.. والسؤال الصعب الذى تتعقد وتتشابك الإجابة عنه: الناس عايزة إيه؟!
والمشكلة التى قد لا يراها الكثيرون أن اهتمامات الناس ورغباتهم واحتياجاتهم لم تتغير فحسب، بل إن الناس أنفسهم تغيروا تمامًا، والمشاهد الذى كنا نخاطبه قبل ٢٠١١، لم يعد هو نفسه الذى كنا نخاطبه قبل ٢٠١٣، وما بعدها!.
والمتلقى الذى كنا نعرفه لم تغيره تطورات الأحداث وحدها ولكن غيرته تكنولوجيا التواصل التى فتحت أمامه عالمًا هائلًا من الاختيارات في محتوى إعلامى جديد غير ذوقه وتوجهاته وغيره شخصيًا.. جعل منه شخصًا آخر يصعب إرضاؤه وبالتأكيد “يصعب الضحك عليه” وحشو رأسه بأى إعلام والسلام!.
ومشكلة الإعلام الحقيقية، هى أن المطلوب منه فوق طاقته، وأحيانًا يلام على خطايا ليس هو المسئول عنها. ونحن نخطئ عندما نتحدث عن الإعلام وكأنه جهاز أو مبنى أو شخص إذا خاطبناه وانتقدناه “تتحل المشكلة”! والحقيقة أننا عندما نقول “إعلام” فنحن نتحدث عن الدولة وتوجهاتها وخطوطها الحمراء العديدة. ونتحدث أيضًا عن المالك وماذا يريده سواء إعلام خاص أم حكومى أم مختلط، ونتحدث - وهذا هو الأهم- عن المحتوى.. من يصنعه ومن يتحكم فيه، وأيضًا عن الجمهور.. من هو؟!، وأتحدى أن يعرف معظم من يقدمون المادة الإعلامية في بلدنا أن يعرفوا.. يبيعون سلعتهم لمن؟!.. من يشاهدها.. ومن يرفضها.. ومن لا يبالى بها في الأساس!.
أما مشكلتى كواحد ممن يتعاطون مع هذه المهنة منذ سنوات طويلة فهى كانت وستبقى دائمًا.. عم عبده البقال!.
فنحن إذا فشلنا في إقناع عم عبده والملايين - اللى زى عم عبده- بما يقدم في إعلامنا فهذا هو الفشل بعينه،وهو ما يجعلنا نقول إن هذه الأموال المهدرة على الشاشات عبث.. وقبض الريح!
وسوف يجد عم عبده وأصحابه ضالتهم في إعلام آخر، وشاشات أخرى تقدم له ما يقنعه وما يحتاجه “عشان يتبسط”، وهو هنا سوف يكون حرًا تمامًا في الاختيار عبر فضاء إعلامى فسيح بين ماهو “برىء” وما هو مغرض وعدائى خطير، وربما قد يجد أيضًا ما يرضيه في مجالات أخرى.. فن أو رياضة.. أو.. المهم أننا فقدنا تمامًا عم عبده الذى راح يشاهد ويستمع ويعرف عن بلده من منابر أخرى ما لا يجده متاحًا في عقر داره. والعجيب هذه الأيام أن من كان يشاهد - مثلًا- لميس الحديدى على قناة مصرية، راح يشاهدها هى نفسها على شاشة قناة غير مصرية!.
وعندما تخلى التليفزيون - ولا أقول تليفزيون الدولة المظلوم من زمن- عن دوره، تخلى عنه المشاهد وهذا أمر طبيعى ولا يجب أن يثير دهشة الحكومة. واسأل نفسك: أين تجد برنامجا ثقافيا يناقش كتابًا جديدًا أو يحاور مفكرًا، أو برنامج سينما، مسرح، موسيقى؟.. أين نجد برنامجًا يهتم بصحة المواطن؟ (كلها اتباعت للدكاترة وتجار الدايت وعمليات التجميل)!، التليفزيون تخلى عن مهمته المقدسة وهى “تقديم الخدمة والمتعة” لكل شرائح المجتمع على اختلاف اهتماماتها.
وحتى لا أثير المواجع لن أخوض طويلًا في الحديث عن السياسة في الإعلام لأن هذا سيجرنا للحديث عن السياسة في المجتمع.. أين هي؟! وأين هم صناعها ورجالها من المؤيدين والمعارضين؟.. كان الإعلام يحاول دائمًا البحث عنهم والاستماع لهم ويشارك في صناعة مناخ شبه صحى ومتوازن.. هذه طبيعة الأشياء، وإذا اختل الميزان وفقد الإعلام البوصلة وانكفأ على نفسه، فقد دوره، بل فقد عقله وفشل حتى في القيام بمهمته الوحيدة وهى الدفاع بإخلاص و“بمهنية” عن الأهداف العليا للأمة في الساحات الدولية والتصدى لحملات عدائية شرسة وقاسية تصوب أسلحتها للرأى العام المصرى، وللأسف بمهنية نفتقدها - بكل الأسى والخزى- في أغلب ما يقدم عندنا للداخل والخارج على حد سواء!
ونحن عندما نتحدث عن “الخطوط الحمراء” للخطاب الإعلامى في دولة تواجه مخاطر وتحديات كبيرة، نقول إن المعيار دائمًا يكون في “درجة الذكاء”، فهناك إعلام ذكى محترف ومهنى يحترم عقل المشاهد، وهناك إعلام خائف ومرتعد وفاشل في فهم هذه الخطوط وكيفية التعامل بها ومعها،وبصراحة.. فإن التعلل بالخطوط الحمراء يكون أحيانًا حجة الفاشلين!.. وانظر كيف يتعامل الإعلام هذه الأيام مع قضايا مصيرية.. ليبيا، تركيا، إيران، وما يجرى في العراق والسودان، وسد النهضة، هذا الإعلام يخاطب من..؟ وبأى لغة؟.. وما هى الرسائل التى نجح في توصيلها داخليًا وخارجيًا؟
وكما قلنا فإن الإعلام ليس شماعة واحدة يكفى أن تعلق عليها كل الخطايا، الإعلام واجهة لثقافة أمة،.. وهو “مرسل ومستقبل”، إذا عرفناهما جيدًا نكون قد نجحنا في نصف مهمة الإصلاح.
وفى الحقيقة نحن لا تنقصنا الإمكانيات، ولا تصدقوا من يقول إن الإمكانات ضعيفة، (أين ذهبت الملايين؟)، أو أننا نفتقد للكفاءات والمهارات.. نحن فقط نفتقد “للفكر” الذى وراء الإعلام، الفكر الذى يجعلنا ببساطة نستعيد عم عبده البقال من الفرجة على قنوات بير السلم وعلى البهلوانات المرتزقة في تركيا، إلى حضن إعلام راق ومحترم، ولا بأس أن نساعده أن يرتقى بذوقه ليشاهد ما يريده على شاشات الدنيا ولكن بما يجعله إنسانًا أفضل، أكثر وعيًا وتحضرًا. نحن فقط نريد أن تتاح لعم عبده حرية اختيار “اللى يبسطه” وألا يجبر على إغلاق تليفزيون بلده!.