الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الشائعات.. واستراتيجيات خداع الجماهير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بما أننا نعيش عصرًا جديدًا من الحروب، سيطرت فيه افتراضية المعركة، وبما أن "المعلومة" أضحت عاملًا محوريًا في حسم جولات تلك المعارك الطويلة، فكان يجب أن ندرك أن "الفتن" و"الشائعات" جزء لا يتجزأ من أدوات حروب الجيل الرابع والخامس والسادس وغيرها من الأجيال المستقبلية، وإن كان تاريخ الحروب منذ بدء الخليقة يعتمد على منهجية بث "الشائعات" وفرض "الفتن".
"الإعلام أول من يدخل ساحة المعركة وآخر من يغادرها.. وإذا لم يتواجد فإنه يترك الساحة لمن يمتلك القدرة على إفراز الشائعات".. منهج فلسفي في كيفية التعامل الآمن مع حرب الشائعات التي تواكب أي معركة حربية لإحداث حالة من البلبلة في الشارع، تلك الحالة تُستخدم منذ آلاف السنين لتهييج الشعوب، واستغلال الظرف السياسي وإجبار العامة والشباب منهم على إثارة الفوضى.
وللأسف الشديد، يعتبر المجتمع المصري تربة خصبة لاختلاق ونشر الشائعات بمنتهى السرعة، فهو مجتمع نامي من دول العالم الثالث، محدود الثقافة، وهي خط الدفاع الأول في مواجهة الشائعات، بالإضافة إلى مرور المجتمع بأحداث مؤثرة مرتين على التوالى، أولهما أحداث 25 يناير وثانيهما ثورة 30 يونيو، ما أدي إلى استعداد الناس لتصديق الكذب، مهما بدا زيفه، إذا ما صادف هواهم، وتكذيب الصدق، مهما بلغ وضوحه، إذا ما خالف هواهم"، فلعبت دورا كبيرا في التأثير على معنويات الشعب، وإن اختلفت درجة تأثيرها تبعا لنوعها والدوافع التي تكمن خلفها، فشائعات الخوف على سبيل المثال من شأنها أن تشيع عدم الثقة في جدوى أي شيء، ما يؤدي بدوره إلى إشاعة الروح الانهزامية لإثارة الذعر والرعب بين المواطنين.
طيلة سنوات حاول المشرع في مصر أن يصدر قوانين خاصة بتجريم ومكافحة الشائعات في المجتمع بشكل عام، رغم وجود نص في قانون سوق العمل، إلا أن هذه المحاولات كان مصيرها الحتمي هو الفشل، لأنها كانت دائما ما تواجه جدلا واسعا ينتهي بالرفض التام، لأن صياغة مشروع القانون كانت تتعارض مع القيم الديمقراطية، وتتصادم مع ما يتطلع إليه الشعب من رفع مستوى الحريات، ومن الصعب إقرار قانون مثل هذا بعد أن قام الشعب بثورتين ووصل مستوى الحريات إلى ما كان يطمح إليه بعض الشيء.
"فوضى المعلومات".. بتلك الصورة يتضح من الهدف الحقيقي لـ"الأخبار المكذوبة"، وفوضى المعلومات أمر متعارف عليه وقديم جدا، وتغيرت مسمياته على مر العصور، وقد نبه القرآن الكريم إلى الحرب النفسية ونشر الأخبار الكاذبة، حين قال في سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"، وفي سورة آل عمران قال: "الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل".
ويعتبر خلق وصناعة ترويج الشائعات على وجه الخصوص من الظواهر المنتشرة بشكل غريب، والتي ساهمت فيها الصحافة الصفراء والمواقع الإخبارية التي تنتشر بشكل كارثي دون اي ضابط أو رابط، بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي سواء كانت "فيسبوك" أو "تويتر"، وهذه الشائعات تلاحق كبيرا وصغيرا لا تستثني أحدا على الإطلاق، بل طالت قديما وحديثا العديد من مشاهير السياسة، ومازال إلى وقتنا الحاضر.
وفي ظل هذا التطور من التكنولوجيا وعالم الاتصالات، أصبح الإعلام له دور هام في تكوين الوعي الاجتماعي لدى الفرد وتشكيل اتجاهاتهم وميولهم ورغباتهم والسلوك تجاه الآخرين، وانفتاح كل بيت على الفضائيات جعل من الخطاب الإعلامي، وسيلة يمكن توظيفها حسب مستوى الفرد والجماعة، لذلك تستحوذ هذه الفضائيات على اهتمامنا، وتحاصرنا في كل مكان نذهب إليه، بل يكاد يكون في جميع الأوقات.
رغم خطورة الشائعات على أي مجتمع، على الأخص المجتمعات التي تعيش حربا شاملة مع أعداء آخرين، إلا أنه لم يكن من السهل أن نضع تعريفا دقيقا محددا لكلمة الشائعة، مما جعلها تحمل الكثير من المعاني الفضفاضة، وكانت أول محاولة لتعريفها لعالمي النفس الأمريكيين "جوردون ويلارد ألبورت" و"ليو بوستمان" في كتابهما المشترك "سيكولوجية الشائعة"، وعرفا من خلاله الشائعة بأنه اصطلاح يطلق على رأي موضوعي معين مطروح كي يؤمن به من يسمعه، وهي تنتقل عادة من شخص إلى أخر عن طريق الكلمة الشفهية دون أن يتطلب ذلك مستوى من البرهان أو الدليل.
كتاب العالمين النفسيين أوضح أنه كثيرا ما تنتقل الشائعة عن طريق عدة طرق، أهمها وسائل الإعلام كالصحافة أو الإذاعة أو أجهزة الإعلام الأخرى، وهي تتسم بصفة التناقض، فقد تبدأ على شكل حملات هامسة، أو تهب كريح عاصفة عاتية، وقد تكون مسالمة لا تحمل أكثر من تمنيات طيبة للمستقبل، كما أنها مدمرة تحمل بين طياتها كل المعاني الجهد والكراهية والتخريب، ومن جهة أخرى أشبه بموج البحر، الذي يعلو فجأة على سطحه ثم يغطس ثانية إلى القاع ليعاود الظهور إذا ما تهيأت الظروف المناسبة، أي أنها وباء اجتماعي يصيب الإنسان ولا يستطيع أن يبتعد عنه أو يتخلص منه بسهولة.
والشائعة تمس أحيانا أحداثا مثل الحرب والتظاهرات والفيضانات والكوارث وارتفاع الأسعار والعلاقات السياسية والموضوعات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية وانتشار مرض أو وباء معين، كما تمس أشخاصا ذو تأثير مثل رئيس الدولة أو رجال الحكومة أو رجال الاقتصاد والأعمال، أو الصحفي والإعلامي والفنان والرياضي، وهذه بعض النماذج لأهداف الشائعات، مع أن هناك أشكالا أخرى ملموسة تظهر فيها، مثل الثرثرة والنكات والتقولات والقذف والتنبؤ بخير أو شر بالأحداث المقبلة.
الحقيقة أن الشائعات لعبة قديمة، بدأت مع بداية الحروب نفسها، ففي كل حرب، يسعى العدو دومًا لهدم الجبهة الداخلية، وإشاعة البلبلة فيها، وبث روح الفرقة في الشعوب، وقطع كل رباط ثقة، بينها وبين قياداتها ودفاعاتها، بحيث يصنع منها جبهة جديدة، ينشغل بها عدوه، فتسهل هزيمته، في جبهة الحرب والقتال.
والشائعات لعبة، استخدمها الفراعنة، وانتهجها البربر، وبرع فيها التتار، الذين كانت تسبقهم الشائعات التي ابتكروها، والتي تبالغ في قوتهم وبأسهم وجبروتهم، لكى ترهب عدوهم، من قبل حتى أن يواجههم، ولقد نجحت الشائعات، التي بثها الألمان، في الشعب الروسي، إبان الحرب العالمية الأولى، في إشعال وإذكاء جذوة الثورة الروسية، التي كان على رأس مطالبها الانسحاب من الحرب، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، حتى جاءت الحركة النازية، التي أدركت.
وكان قد أُشيع أن سقراط يفسد عقول الشباب بما يطرح عليهم من تساؤلات، وقد أدى ذلك إلى حشد الرأى العام ضده ومطالبته بقتله وقد تم فعلا ذلك، كما أشاع بعض أعوان نيرون أنه لم يحرق روما وإنما حرقها بعض المسيحيين، مما أدى إلى حملة اضطهاد موجهة نحو المسيحيين في روما، وكادت شائعة قتل سيدنا عثمان أن تشعل حربا بين المسلمين وأهل قريش لولا اكتشاف عدم صحتها قبل أن تتطور الأمور.
مؤخرا كتب الفيلسوف وعالم اللسانيات الأمريكي "أفرام نعوم تشومسكي" مقالا في مدونة حركة الحقيقة من أجل الحادي عشر من سبتمبر بعنوان "الاستراتيجيات العشرة لخداع الجماهير"، أظهر فيه أن الغرض من إطلاق الشائعات "إلهاء" الرأي العام عن المشكلات الحقيقية التي غالبا ما تمثل حروب غير مشروعة أو أزمة اقتصادية واجتماعية، وإنهاك الطاقات التي قد تغذي "الثورات"، من خلال طوفان مستمر من الترفيهات والأخبار اللامجدية، وحرمان الجمهور من الاهتمام بالمعارف الأساسية، في ميادين العلوم، الاقتصاد، علم النفس، والحفاظ على جمهور منشغل، منشغل، منشغل، دون أدنى وقت للتفكير، لذلك مثلت أول الاستراتيجيات للخداع.
وكأنت ثاني تلك الاستراتيجيات "خلق المشكلات ثم تقديم الحلول"، ويستهدف منها فرض الإجراءات الحاكمة على الشارع دون إجبارة على ذلك، من خلال خلق مشكلة أو أزمة أو عنف حتى يطالب الرأي العام بقوانين أمنية على حساب الحريات، وأيضا خلق أزمة اقتصادية لتمرير -كشر لا بد منه- تراجع الحقوق الاجتماعية وتفكيك المرافق العمومية.
في حين جاءت الإستراتيجية الثالثة تحت عنوان "إستراتيجية التقهقر"، فمن أجل تقبل إجراء غير مقبول، يكفي تطبيقه تدريجيا، -بالتقسيط-، على مدى عشر سنوات، فبهذه الطريقة تم فرض ظروف "سوسيو-اقتصادية" حديثة كليا، أو ما يطلق عليها "الليبرالية الجديدة" في الثمانينيات، في ظل بطالة مكثفة، هشاشة اجتماعية، مرونة، تحويل مقرات المعامل، أجور هزيلة، كثير من التغييرات كانت لتحدث الثورة لو تم تطبيقها بقوة.
"مخاطبة الرأي العام كأطفال صغار".. كانت الإستراتيجية الرابعة، فكلما حاولنا خداع المشاهد، كلما تبنينا لهجة صبياني، يليها إستراتيجية "اللجوء إلى العاطفة بدل التفكير"، وهي تقنية كلاسيكية لسد التحليل العقلاني، وبالتالي الحس النقدي للأفراد، كما أن استخدام المخزون العاطفي يسمح بفتح باب الولوج إلى اللاوعي، وذلك من أجل غرس أفكار، رغبات، مخاوف، ميولات، أو سلوكيات على المجتمع المستقبل له.
أهم الاستراتيجيات التي رآها "أفرام نعوم تشومسكي" كانت ممثلة في الإبقاء على الجمهور في الجهل والخطيئة، والعمل على أن لا يفهم هذا الجمهور التقنيات والطرائق المستخدمة من أجل ضبطه والسيطرة عليه، ثم استراتيجية "تشجيع الجمهور على استساغة البلاد"، وتعتمد على تشجيعه على تقبل أن يكون أخرقَ، أبلهَ، فظا، جاهلا، وأخيرا استراتيجيتي "تعويض الانتفاضة بالشعور بالذنب"، وإيهامه بأنه المسئول عن هذا الفشل، و"معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم" لفهم طبائعهم.