يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراح علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات.. استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا في أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا- دائمًا- كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عام من الأخلاق...
الواقع- الآن- في عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من إنسانيته.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدى التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمه وعقلها وصانع مستقبلها.
............................................................................................
التفكير في عزل السلطان التركى بعد الهزائم المتلاحقة على يد الجيش المصرى
بعد هزيمة الجيش التركى الثانى والأخير على يد الجيش المصرى في معركة قونية، راسل القائد إبراهيم والده والى مصر يخبره بما دار بينه وبين رشيد باشا قائد عسكر العثمانيين المهزوم، وقد سجلت الوثائق المصرية «جورنال» تلك المحادثة المهمة بينهما في 26 ديسمبر عن خلع السلطان محمود وتولية إبنه عبد المجيد سلطانا:» رشيد باشا: لكن عبدالمجيد أفندى لا يزال طفلا فهل تظن أنه قادر على تولى الحكم وتصريف الأمور.
إبراهيم باشا: إن السلطان محمد الفاتح ارتقى إلى العرش وهو في السابعة من عمره، وعبد المجيد أكبر منه سنا الآن، وعندى أن صغر سن الأمير لأفضل للدولة ومستقبلها، لأن أمراء السلطنة لا يتلقون الآن التربية والتهذيب اللذين يتلقاهما أمراء الأمم، فهم يُرَبّون في الحريم ويكبرون دون أن يكونوا ملمين بشىء من شئون الدولة، فإذا رُقى عبدالمجيد وهو فتى يمكنه أن يُمرّن بواسطة الرجال المدربين، فينمو عقله ويصير رجلا كاملا يعرف واجبات الأمة والملك.
رشيد باشا: هذا صحيح ولكن إذا بلغ السلطان ذلك قتل الأمراء جميعا.
إبراهيم باشا: الغرض الوجيد أن تنظم شئون الدولة حسب مصلحتها، وبما أنه يجب أن يكون لكل أمة ملك يحكمها، فنحن إذا ما فعلنا ما أقترحه عليك نختار للأمة السلطان الذى نقره على العرش، فلا يكون فلا يكون في وسعه بعد ذلك أن يقول: «إن إرادتنا العالية قد اقتضت قتل أو نفى أو إبعاد فلان وفلان» فإذا فعل بعد أن ننصبه على الوجه الذى بسطته لك يكون مسئولًا شخصيًا أمام الأمة عن عمله، وحينئذ تنفذ إرادة الأمة بعزلة،
رشيد باشا: أنا أوافق على رأيك، لكن هل الأمة الإسلامية على استعداد لقبول هذا التغيير؟
إبراهيم باشا: يجب أن ننتظر المعارضة في أول الأمر، ولكن الجميع ينتهون بمعرفة أفضليته على سواه ويدركون أهميته، وحينئذ يطلبون هم ذاتهم أن يوطدوا الحكومة والحكم على أساس متين».
تلك المحادثة تعد درسًا بليغًا في ديمقراطية حكم الشعوب والتخلص من الحكام الديكتاتوريين والمهووسين بالعرش دون النظر بعين الاعتبار بصلاح حال الرعية المحكومين، وهذا ما قصده القائد إبراهيم في محاورته بالقائد رشيد، حيث إن عزل السلطان التركى أصبح وجوبيًا لما ألحقه هذا المتهور من هزائم لا مبرر لها بجيشيه وأيضا لما وصلت إليه حال السلطنة من ضعف زاد من أطماع أوروبا في مقدرات الأمة مما جعلهم يطلقون على الدولة العثمانية التركية «رجل أوروبا الضعيف» تمهيدا لتقسيم الإمارات العربية التى تحت الحكم التركى، ومن هنا كانت مبادرة قائد الجيش المصرى المدعومة من والى مصر بالسعى لضم ولايات الشام العربى والحجاز والسودان لمصر حماية من أطماع أوروبا الاستعمارية في الأراضى العربية، من جانب ومن جانب آخر حماية للعمق الاستراتيجى للدولة المصرية الحديثة والتى أبهرت أوروبا الاستعمارية بقوة جيشها الحديث المنظم والمدرى بكفاءة، وبقوة اقتصادها الذى أصبح منافسا حقيقيا في الصناعات العسكرية والمدنية وتحكم في الزراعات النقدية الإستراتيجية على مستوى العالم، فضلًا عن الحركة التنويرية بين الثقافة والفنون والآداب والعلوم مدارس مصر التى تُنبئ بدولة فتية قوية يهابها الغرب الذى لا تخلوا طموحاته من العداء لمصر على مدى التاريخ!
وربما ستتكرر محادثات أخرى لكن تلك المرة بين القائد المنتصر عسكريًا والحاكم المحنك سياسيًا، وتبادل الرؤى العسكرية والسياسية تجاه تركيا، في القادم إن شاء الله.