دعوني أخالف آخر ما تم تأريخه من أن أشهر الحمير ثمانية، وأضيف إلى القائمة حمار «عم محمود»، وأترك «القوس» مفتوحا لكي لا أكون أنانيا، وأترك الفرصة لمن أراد أن يُضاف أو يضيف.
قبل الولوج في سيرة حمارنا الجديد، أُذكر نفسي وإياكم بالثمانية حمير الذين استطاعوا أن ينقشوا نهيقهم في كتب التاريخ، إما بالطاعة أو بالنطاعة أو بنقل البضاعة، ومع أنه لا أحدا منهم كان يضع في حسبانه ذلك التخليد إلا أن تلك هي سخرية القدر المعتادة جواد فصيح يُصيح يزعج السادة، وحمار مطيع يجلب السعادة ويدخل التاريخ، يطأ صفحاته وسطوره قبل صاحبه.
نعود إلى الثمانية حمير.. الأول.. الحمار الفرعوني رمزا للإله "ست"، الذى كان يمثل روح الشر خلال العصر المتأخر، الثاني.. حمار النبي عزير، الذي أماته الله وأحياه وقال لعزير: «انظر إلى حمارك»، ولم نأخذ جميعا الأمر بعين الاعتبار، الثالث.. حمار المسيح الذي دخل به القدس، ولم يشأ لتواضعه أن يركب جوادًا، الرابع.. حمار «جحا» الذي كان سببا في شهرة صاحبه حتى أن أحد الرجال قاله له: يا جحا لقد عرفت حمارك ولم أعرفك، فقال جحا: هذا طبيعي لأن الحمير تعرف بعضها، الخامس.. تم حذف واو العطف من شدة إعجاب الخليفة الأموى مروان بن محمد بصبر الحمار، فاتخذه شعارا وانتسب إليه بالاسم، السادس حمار الحاكم بالله، وكانت تطارده الكلاب بالنباح، فأمر بقتل جميع الكلاب لكيلا يروعوا حماره، السابع.. حمار الحكيم.. رواية ألفها توفيق الحكيم عام 1940، «فلتقرأوها»، الثامن.. الحمار الديمقراطي بأمريكا.. ألصق جاكسون على ظهره شعار حملته الانتخابية وقاده وسط القرى والمدن المجاورة لمسكنه من أجل الدعاية لبرنامجه الانتخابى "الشعبوى".
التاسع.. حمار «عم محمود».. كان كل ما يملكه عم محمود في الدنيا هو «حمار» عانى من الضعف لكنه أصر على استكمال مشواره مع صاحبه، لم يضجر ولم يصدر نهيق اعتراض في أحلك الظروف، صارت علاقة عم محمود بحماره كحكايات جحا، والحقيقة أن الاثنين كانا يتمتعان بخفة ظل تعينهما على مشوار الحياة الطويل.
كان خط السير لهما ثابتا من البيت للغيط، المسافة كانت قصيرة لكن الوقت كان طويلا بحكم سنهما وسوء حالتهما الصحية.
ذات مرة كانا في طريقهما للغيط، وأخذ الحمار يتلفت يمينا ويسارا، خاطبه صاحبه بهدوء: «بطل لكاعة»، لكن الحمار لم يكف عن النظر يمينا ويسارا، فغضب عم محمود ونزل من على ظهر الحمار ومسكه من رقبته منفعلا: "بقولك بص قدامك إيه المحفظة وقعت منك.. قبض الشهر راح يا ابن الحمار".
غضب "مسعد" وأزاح بعنقه من يد عم محمود وهم أن يفترش الأرض لولا اعتذار صاحبه له، ووعده بزيادة في حصة البرسيم، فرح الحمار وزاد من زكته يصارع الطريق الذي لم يهزمه سابقا في كل المسافات.
كان عم محمود يعتلي ظهر الحمار منتشيا كفارس في أوج انتصاره وإن خالف الواقع خياله، إلا أنه كان يؤمن بمقولة: "حمارك الأعرج يكفيك عن سؤال اللئيم".
في آخر اليوم كان يربط الرجل حماره في مدخل داره الذي لا يتعدى مقدار موضع الستة أقدام، ثم ينخز الحمار في مؤخرته بعصاه وهو ضاحكا: "أوعى مسعد"، كانت تلك الحركة تغضب الحمار لكنه لا يبوح لصاحبه بضيقه وينتظر ربما يغير صاحبه عادته لكنه في كل يوم كان يكررها فيغضب الحمار.
في ختام يوم شاق قطع فيه الحمار المشوار للغيط أكثر من مرة، فعل عم محمود فعلته وكان البرد خنق جيوبه الأنفية فغلبت النون على بقية الحروف الأبجدية كما في القول المأثور «دي منـ«ر»بى يا معلم فقال: "أوعى نُسعد"، وما كان من الحمار إلا أن رفسه في أسوأ مكان ممكن أن تسدد فيه ضربة، تلوى الرجل وهو يصرخ: "أنه أنه ليه كده يا نسعد.. نشنت يا نسعد"، ضحك الحمار لأول مرة في حياته وأخذ ينهق بصوت عالٍ، يضحك وصاحبه ملقى على الأرض يلملم أنفاسه من الثرى.
استدار الحمار وخرج من باب الدار يزك بقدمه لكنه لم يذهب إلى الغيط، لأول مرة يخلف الطريق، انطلق إلى وجهة أخرى لا يعرفها صاحبه ولا حتى الحمار يعرفها.
بحث عم محمود عن حماره كثيرا كان يتلفت يمينا ويسارا كمن ضاعت منه محفظته، سأل الحمير الثمانية ربما قابلهم في إحدى صفحات التاريخ، حاول أن يأت بحمار جديد ليحل محل حماره لكن هيهات، فالجديد إما أن يكون أسرع فيسقط الرجل من على ظهره، أو أبطأ فتتورم مؤخرته من طول الطريق.
أيقن محمود أن الحياة تسخر لكل شخص منا حمارا مناسبا شريطة ألا يرفسه فيرفسه.
لا أعرف ما هو الداعي لكل ما كتبت في هذا المقال، لا أعرف إذا كنت أنتقد الحمير.. أم أفتخر بهم وبتجاربهم.. لكنني أتذكر أبيات من الشعر قالها لي رجل كان يحدو حمارا.
أهي ليلة وفراقها صبح
فلا تجادل ولا تناقش
ولا تفهمش
هتعمل إيه إذا إنت فهمت!
يا تبقى حمار بالغصب
يا تبقى حمار بالطوع
يا تبقى حصان مدبوح
فخدها مبسطة من الأول
وأديك شايف حظ الجحش
فما تجحش
