ذكرنا في السابق، أن تمكين الشباب وإشراكهم في الحياة السياسية المصرية هو أحد أهداف الإدارة السياسية، وأحد مطالب سيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي. ولكن بنظرة سريعة على واقع الحياة السياسية المصرية اليوم، نجد أنه من الصعب على أى شاب أن يجد له مكانا بين أكثر من ١٠٠ حزب سياسي، لا يستطيع أيُ منا ذكر أسماء أو برامج أو حتى قيادات خمس منها. والواقع أن هذه الأحزاب رغم كثرتها، لاتحتوى على برامج سياسية، أو تثقيف سياسي، أو حتى فكر سياسى أو اقتصادى أو اجتماعي، يستطيع أن يجتذب الشباب، على عكس ما هو حادث في دول العالم. وبنظرة عامة، نجد أن هناك دولا اشتراكية ذات الحزب الواحد مثل الصين وكوبا، أو دول رأسمالية ذات الحزبين الكبيرين مثل إنجلترا وأمريكا، أو دول متعددة الأحزاب، ولكن لكل حزب أيديولوجية (مرجعية)، إما قومية أو بيئية أو حتى دينية، كما هو الحال في بعض دول أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
وبرغم عدم اندماجى في الحياة السياسية طوال حياتي، إلا أنني كنت وأنا طالب في جامعة المنصورة في ثمانينيات القرن الماضي، معجبا بالفكر اليساري (الاشتراكي) الاجتماعي الذى دعا إليه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. وكان أيقونة هذا الفكر في المنصورة هو أستاذنا الدكتور محمد غنيم، رائد جراحات المسالك البولية وزراعة الكلي، وأستاذنا الدكتور عمرو سرحان، عميد طب المنصورة الأسبق. ويدعو الفكر اليسارى في جوهره إلى المساواة والعدل بين كل فئات الشعب، وفى حق الجميع في التعليم الجيد والخدمات الصحية الجيدة. ويناهض الرأسمالية الفردية، والتفاوت الطبقى والإقطاع.
وعند سفري إلى المملكة المتحدة سنة ١٩٩٧، وفى أول زيارة إلى مبنى اتحاد الطلاب في جامعة مانشستر، وجدت حملة انتخابية لحزب العمال البريطاني، ووجدت اثنين من الشباب (أقل من ٤٥ سنة)، هما تونى بلير وجوردن براون، يجلسان مع طلاب الجامعة، ويتحدثان بلغة إنجليزية سهلة وجميلة، ويدعوان الطلاب إلى التصويت في الانتخابات القادمة لحزب العمال الجديد، (New Labour). وذكر تونى بلير أن الحزب سوف يتحرك من اليسار إلى يسار الوسط. ثم وقف أحد الطلاب وسأل بلير عن الفرق بين أيديولوجية حزب العمال اليسارية، وأيدولوجية حزب العمال الجديدة والتى تدعو إلى يسار الوسط. وأجاب بلير بذكاء أن الحزب الجديد سوف يستمر في إعطاء الأولوية للتعليم والصحة والمساواة والعدل وحقوق العمال، كما كان منهجه منذ سنة ١٩٠٠، ولكنه سوف ينتهج سياسة أكثر اعتدالا في فرض الضرائب وتشجيع الاستثمار والملكية الفردية، وبذلك سوف يقترب من سياسات حزب المحافظين المنافس في تطبيق بعض المفاهيم الرأسمالية التى تراعى المتغيرات الاجتماعية.
وعندما انتهى اللقاء الانتخابي، ذهبت إلى مكتبة الجامعة الملاصقة لمبنى اتحاد الطلاب، وبدأت في البحث عن المصطلحات التى سمعتها في اللقاء الانتخابى وخاصة معنى كلمات الأيديولوجية، واليسار واليمين، والفرق بين سياسات حزب العمال وحزب المحافظين، وكانت كلها مفردات جديدة بالنسبة لي.
ووجدت أن الأيديولوجية أو المرجعية هى مجموعة من الأفكار التى يتبناها الحزب السياسى في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وغيرها، ويحاول إقناع أكبر عدد من الناس بها، والتصويت له في الانتخابات والوصول بها إلى الحكم.
أما الفروق الأيدولوجية بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين، فيمكن القول (بصفة عامة مبسطة)، إن تيار اليسار يدعو إلى المساواة بين الأفراد والعدالة الاجتماعية، بينما تتبنى الأحزاب اليمينية الفكر الذى يشجع على تنمية الفروق الفردية والحفاظ على النظام العام الدولة.
ويتخذ اليسار في كل من انجلترا (حزب العمال)، وأمريكا (الحزب الديمقراطي) اللون الأحمر رمزا للحزب. بينما يتخذ اليمين (حزب المحافظين في انجلترا والحزب الجمهورى في أمريكا)، اللون الأزرق رمزا لهم. ولذا فلا غرابة أن تجد التشابه بين كل من دونالد ترامب وبوريس جونسون، فكلاهما من أحزاب يمينية، ولا بين تونى بلير وبيل كلينتون، فكلاهما ينتمى إلى أحزاب (يسارية) إن صح التعبير، ولكن العجب أن تجد اتفاقا بين جورج بوش وتونى بلير، حيث اتفقا على غزو العراق، مما أحدث شرخا في مفهوم الأيدولوجية، خاصة في انجلترا بين مؤيدى حزب العمال، والذى شارك أتباعه بقوة في المظاهرات التى خرجت احتجاجا على غزو العراق دون موافقة الأمم المتحدة سنة ٢٠٠٣، وهو الموقف الذى أضعف شعبية تونى بلير، بل أضعف حزب العمال نفسه.
وبصفة عامة، فقد شهد العقد الماضى تفوقا للأحزاب اليمينية وتراجعا ملحوظا للأحزاب اليسارية، وبداية النهاية للأيديولوجيات النمطية التى استمرت لأكثر من قرن من الزمان. ففى آخر انتخابات أمريكية والتى أتت بدونالد ترامب رئيسًا سنة ٢٠١٦، وبريطانية والتى أتت بجونسون رئيسًا للوزراء في ديسمبر ٢٠١٩، كان واضحا أن الإيديولوجية الحزبية قد اختفت أو تكاد تختفي، وأن الفردية أو البرجماتية العملية تكاد تكون هى الصفة الغالبة في العصر الحديث. وتغيرت آليات العمل السياسى وطرق الدعاية والتواصل بين المرشح والمواطن العادي، وساعد ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، مثل فيس بوك وتويتر وغيرها، على معرفة الاحتياجات الفردية للمواطن العادي، ومحاولة الوصول إلى العدد الأكبر منهم بطريقة مباشرة ودون وساطة الأحزاب السياسية.
وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة على تنوع الأفكار السياسية وتعقد العلاقات الاجتماعية، وظهور اتجاهات جديدة غير التى عرفها العالم منذ الثورة الفرنسية. وظهرت تيارات متطرفة، على أقصى اليمين مثل الأحزاب الدينية والقومية المتشددة، وعلى أقصى اليسار مثل الاشتراكيين الثوريين واللاسلطوية (الاناركية)، أو اليسارية الراديكالية، وهذا ماقد يزيد من تحلل الأيديولوجيات الحزبية القديمة، وزيادة مساحة الفردية أو البرجماتية العملية أو الميكافيلية في المستقبل القريب.