حملت أخبار تحرير مدينة سرت الليبية من سطوة عصابات الإرهاب، مفاجأة قوية للجميع، لم تختلف دلالاتها بالنسبة لأى طرف، وإن اختلف وقعها بين الفرح والسرور للوطنيين الشرفاء المؤيدين لعودة الدولة، والحزن والإحباط واليأس للخونة الذين استعانوا بالعدو التركى على أوطانهم.
فقد تأكد لكل الأطراف الدولية والإقليمية أن الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر هو الطرف الأقوى من الناحية العسكرية، وأنه قادر على استكمال مسيرة تحرير باقى المدن من سطوة عصابات الإرهاب بعد أن بسط سيطرته فعليًا على أكثر من 90% من إجمالى مساحة البلاد البالغة مليون وسبعمائة ألف كيلومتر مربع، أى ضعف مساحة مصر تقريبًا.
فمدينة سرت كانت قد تحولت عبر السنوات التسع الماضية منذ اندلاع أحداث 17 فبراير 2011،إلى معقل حقيقى لأعتى الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة المرتبطة عضويًا بما يسمى بميليشيات مدينة مصراتة، وقد أهلها ذلك إضافة إلى مينائها الكبير على ساحل البحر المتوسط وقاعدة القرضابية العسكرية،أن تكون جزءا رئيسًا في خطة الرئيس التركى أردوغان لتطويق الجيش الوطنى الليبي.
فكان من المفترض أن يستقبل كل من ميناء سرت وقاعدة القرضابية عناصر الجيش التركى والمرتزقة السوريين ليبدأوا بشن هجوم واسع يستهدف السيطرة على منطقة الهلال النفطى الواقع إلى شرق المدينة بتأمين من ميليشيات مصراتة التى ستساعدهم في محاولة تطويق الجيش الوطنى إلى الغرب من مصراتة في طرابلس وفى شرق سرت، لذلك جاء خبر تحرير سرت المدينة التى تبعد 450 كيلومترا شرق طرابلس وتتوسط الساحل الليبى بمثابة صفعة لكل مخططات أردوغان وهذا ما أكده لى أستاذ العلاقات الدولية في الجامعات الليبية دكتور محمد الزبيدى الذى أوضح أن تحرير سرت غَيَرَ الكثير في المعادلة الليبية التى لن يكون الاعتراف فيها إلا للطرف الأقوى وهو؛ ما دفع بحسبه بعض الأطراف الدولية التى ما تزال تراهن على ما تُسمى بحكومة الصخيرات بقيادة فايز السراج إلى اقتراح حزمة من الإجراءات لتخفيف التصعيد في ليبيا، من بينها إرسال قوة حفظ سلام دولية مهمتها مراقبة تطبيق قرار مجلس الأمن بخصوص حظر تصدير السلاح إلى ليبيا وكذلك منع حدوث تدخلات أجنبية خارجية عبر عناصر وقوات مسلحة.
الدكتور الزبيدى يرى أن صاحب هذا الاقتراح إنما يريد الحفاظ على استمرار تواجد الميليشيات الإرهابية في كنتونات وتجمعات داخل مدن مثل مصراتة وتكون قوات حفظ السلام بمثابة العازل الذى يحمى تلك الميليشيات من الجيش الوطنى الليبى وهو؛ ما يعنى استمرار الأزمة الليبية إلى ما لا نهاية.
ويضيف الزبيدى أن بيان جامعة الدول العربية الصادر عن اجتماعها الطارئ الأسبوع الماضى هو ما أعطى قبلة الحياة لحكومة السراج واتفاق الصخيرات، بإعلانه التمسك به كمرجعية وحيدة للتسوية السياسية بينما الاتفاق سقط من الناحية القانونية بحسب بنوده في 2017؛ حيث نصت على أن يمتد الاتفاق لمدة عام إلى 2016 على أن يُجدد لمدة عام واحد فقط.
تحرير سرت حمل دلالات مهمة لكل من إيطاليا وتونس والجزائر؛ فالآن قد يكتمل اقتناع روما بأن مصالحها في نهاية المطاف لن تكون إلا مع الطرف القوى الذى سيحرر العاصمة طرابلس من فلول الإرهاب ويجلس على المائدة الليبية ليصنع تسوية سياسية محلية، وأن مصالحها التى بنتها مع حكومة السراج وعصاباتها المسلحة باتت مهددة؛ فبحسب الدكتور الزبيدى أقامت إيطاليا علاقات مشبوهة مع عصابات مسلحة وجماعات إرهابية لتحقيق بعض مصالحها منها؛ على سبيل المثال الحصول على الغاز الليبى والبترول الليبى مُكررًا مجانًا، وتوكيل تلك العصابات المُسماة علنًا بخفر السواحل للقيام بأعمال قذرة ضد المهاجرين غير الشرعيين أقلها؛ إغراق قواربهم في عرض البحر المتوسط.
ولولا جهود الدبلوماسية المصرية مع الطرف الإيطالي، والحديث لا يزال للدكتور الزبيدي، لأقامت روما قواعد عسكرية صريحة في مدن الغرب الليبى على غرار قاعدتها في مصراتة.
لكن تحرير سرت سيكون له الكلمة الفصل التى تدفع إيطاليا للتخلى تمامًا عن حليفتها حكومة الوفاق.
الأمر ذاته كان بالنسبة لتونس التى أعلنت في بيان رسمى صباح الثلاثاء، وهو اليوم التالى لتحرير سرت، رفضها استخدام أراضيها لإبرار جنود وآليات عسكرية تركية، ولم يختلف الحال كثيرًا في الجزائر التى تُدرك جيدًا أنها في نهاية المطاف تحتاج إلى حكومة ليبية قوية قادرة على هزيمة وملاحقة فلول الجماعات الإرهابية، والاشتراك معها في تأمين حدودها التى تبلغ أكثر من ألف كيلومتر.
انتصار الجيش الليبى في سرت كان له انعكاسه اللحظى والمباشر على مسار اجتماع مجلس الأمن الذى انعقد بناء على طلب ما تُسمى بحكومة الوفاق غير الشرعية حيث؛ طلب وزير خارجيتها محمد طاهر السيالة عقد جلسة بمجلس الأمن لمناقشة ما يقول إنه جريمة حرب ارتكبها الجيش الوطنى بقصفه الكلية العسكرية مما أسفر عن مقتل نحو 30 طالبا وجرح آخرين.
الاجتماع تجاهل الحديث عن تلك الجريمة التى ارتكبتها عصابات السراج بهدف تشويه سمعة الجيش الوطنى الليبى ومحاولة يائسة لإيجاد مبرر أخلاقى لاستدعاء العدو التركى ومرتزقته السوريين؛ فقد أذهلت جماهير مدينة سرت العالم بخروجها الحاشد إلى شوارع المدينة للالتحام مع قوات الجيش الوطنى الليبى والاحتفال بتحريرها ما يعنى أن المدن الليبية الواقعة تحت سيطرة السراج مُختطفة من قبل عصاباته وميليشياته المسلحة.
وصحيح أن المجتمعين في مجلس الأمن قد اختلفوا على توجيه إدانة صريحة للتدخلات التركية وقيام راعى الإرهاب الدولى أردوغان بإرسال مرتزقة سوريين،إلا أنه تم التوافق في نهاية الأمر على إصدار بيان صحفى يتضمن الحث على وقف التصعيد العسكري، احترام قرارات مجلس الأمن الخاصة بحظر التسليح على ليبيا، دعم جهود مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة.
وبحسب مراقبين جاءت هذه الصيغة للحفاظ على الحد الأدنى من التوافق بين القوى الكبرى تفاديًا لوقوع خلافات قد تؤثر سلبًا على مؤتمر برلين المُزمع عقده خلال الشهر الجاري.
يبقى القول في التحليل النهائى إن تحرير مدينة سرت بعملية عسكرية نوعية من هذا الطراز الرفيع والمتقدم قد أطاح نهائيًا بأحلام أردوغان في تدشين قواعد عسكرية تركية داخل الأراضى الليبية وهو ما أقره بشكل غير مباشر وزير خارجيته مولود شاوش أوغلو، ليس ذلك فقط بل إن تحرير سرت قد وأد أطماعه في خلق بؤر إرهابية تشكلها عناصر المرتزقة السوريين من العرق التركمانى وهو ما يعنى بعبارة أخرى؛إزاحة شبح حرب إقليمية كانت ستشتعل حتمًا إذا نقلت تركيا قواتها هناك أي أن الصراع سيظل عند مستوى عملية طوفان الكرامة للجيش الوطنى الليبى لتحرير أراضى بلاده من فلول جماعات الإرهاب والعصابات الإجرامية.
ومع كتابة هذه السطور تتقدم قوات الجيش الليبى لتطويق مدينة مصراتة فيما تحرز كتائبه تقدمات غير مسبوقة داخل طرابلس ما يعنى من الناحية العملية قطع طريق الإمدادات على عصابات السراج المتواجدة في العاصمة وهو؛ ما يُنبئ بانتصارات عسكرية ستفرض واقعًا سياسيًا مُغايرًا لما فرضه اتفاق الصخيرات، وقد أكدت لى عدة مصادر سياسية ودبلوماسية مصرية وليبية أن مؤتمر برلين سيشهد الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة، ونزع الاعتراف بشرعية حكومة السراج.
فقد أضحى الجميع يدرك استحالة أن يظل السراج بعد كل ما ارتكبه من جرائم ضد الشعب الليبي، فاعلًا في صياغة مستقبل ليبيا، علاوة على أن الجارة الشرقية مصر كما لم تسمح بأى تواجد عسكرى تركى أو تمدد نفوذ الجماعات الإرهابية داخل صحراء ليبيا، لن تسمح أيضًا بأن يلعب قادة وممثلو جماعة الإخوان الإرهابية وشقيقاتها أى دور في صياغة مستقبل ليبيا خاصة في ظل تبعيتها لتركيا التى تسعى لتطويق الدولة المصرية عبر عدة محاور إستراتيجية تارة بتواجد عسكرى مُباشر وتارة أخرى عبر بؤر لتنظيمات إرهابية.