بلغة سينمائية حميمة، استطاعت المنتجة والمخرجة ماريان خورى في فيلمها «احكيلي» أن تروى لنا همومها كامرأة أفكارها وصراعاتها اليومية والحياتية وتروى نجاحاتها علاقتها بخالها المخرج العبقرى العالمى يوسف شاهين وشقيقها المنتج جابى خورى وشقيقها الأكبر إيلى وابنتها التى تمثل الجيل الجديد من العائلة السينمائية.
الفيلم كان هو الفيلم المصرى الوحيد الذى نافس في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى الـ41 وحصل على جائزة الجمهور، وكان عرضه العالمى الأول في مهرجان أمسترادم الدولى للأفلام الوثائقية، والخبر السعيد حقا أنه سوف يعرض بداية من يوم 15 يناير في سينما زاوية بوسط القاهرة، هذه الفكرة التى استطاعت من خلالها ماريان أن تقدم الثقافة السينمائية للشباب عبر عروض الأفلام الأوروبية والعربية بعيدا عن السينما الأمريكية التى تغزو دور العرض التجارية، فتفتح آفاقهم على سينما مختلفة تتناول الهموم الإنسانية بعيدا عن إبهار الصورة.
قد يتصور البعض أن الفليم شخصى أو وثائقى من أفلام السير الذاتية إلا أنه يعكس بشكل غير مباشر طبيعة الحياة في مصر ويمسك بنهايات مصر الكوزموبوليتانية، وروح التعددية والتنوع والانفتاح الثقافى والحضارى متتبعة جذور أسرتها التى تتحدر من بلاد الشام وقطنت الإسكندرية.
يروى الفيلم عبر 98 دقيقة قصة أسرة ماريان خورى من وجهة نظرها وطرحت من خلاله بذكاء ودهاء سينمائى «وراثي» تساؤلات حول دور الأم في حياة أبنائها وفى حياة أسرتها. فهو مثلا يعكس كيف كانت اللغة الفرنسية لغة الحياة اليومية بين العائلات السكندرية، فيوسف شاهين الذى تخرج في كلية فيكتوريا كوليدج الإنجليزية كان يتحدث الفرنسية بطلاقة مع أسرته، وتلك كانت سمة المجتمع السكندرى منذ نهايات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. الفيلم المعند على المكاشفة والبوح يعكس لنا جانبا إنسانيا جديدا لم نعرفه عن شاهين ويحسب حقا لماريان توثيقها هذه الأحاديث مع خالها المخرج وكواليس أفلامه التى استلهم معظمها من حياته الواقعية.
وما لفت نظرى هو براعتها كسينمائية في أن تلتقط اللحظات الأكثر حميمية في حياة أسرتها أو حتى الأحاديث العابرة بين الأشقاء وتوثقها سواء عبر الحكى من كبار سيدات العائلة أو عبر لقطات من مشاهد أفلام يوسف شاهين «ثلاثيته عن الإسكندرية» التى كان الحوار فيها هو حوار حقيقى وقصص حقيقية من حياة أسرة شاهين، ومن ثم قامت ماريان ببراعة بتركيب كل ذلك في شريط سينمائى يقول الكثير ليس فقط عن هذه العائلة السينمائية وإنما عن مصر التى كانت!. بلقطات وزوايا تلقائية تجعل ماريان المشاهد يتماهى مع الفيلم لحظات الولادة والمرض.. لحظات النجاح والأعياد.. وتثير فضوله حتى آخر لقطة في معرفة الاجابة عن التساؤلات التى دارت في خلد ماريان قبل أن تجد طريقها عبر الشاشة الفضية.
نجحت ماريان في أن تعكس صراع الأجيال بينها وبين ابنتها، المشاكسات والتساؤلات الدائمة التى يطرحها الأبناء وقد نعجز نحن كآباء وأمهات عن الاجابة عنها!!
لغة الفيلم الإنسانية ربما هى السبب في أن يستغرق في إعداده 9 سنوات، فهو فيلم تسجيلى من نوع خاص يجعل المشاهدين يضحكون ويبكون، يتأثرون ويفكرون مع تساؤلات ماريان خورى حول سر عدم سعادتها، على الرغم من كل النجاحات والمنح الإلهية، ويشاركنا الهاجس الذى يطاردها حول الحياة والموت والمغزى من الحياة؛ إذ تكتشف من وراء حكايات إحدى سيدات العائلة أن والدتها كانت تريد التخلص منها حينما كانت ماريان جنينا.. تحاول البحث عن سبب توتر العلاقة نوعا ما مع والدتها والسر وراء عدم دخول والدتها مجال السينما بالرغم من امتلاكها المظهر والذكاء وقوة الشخصية التى جعلتها تخطف الأضواء خلال ظهورها مع شقيقها يوسف شاهين عبر شريط من الصور الفوتوغرافية يبرز أناقة وجمال سيدات مصر.
نجاح ماريان سبقه مسيرة طويلة في عالم السينما فقد كان جدها لوالدتها ولخالها يوسف شاهين وكيلا لشركات فوكس ويونيفرسال في مصر وساهم في توزيع الأفلام في بدايات القرن العشرين، وبعد دور خالها يوسف شاهين في صناعة السينما، شاركت ماريان في إدارة شركة أفلام مصر العالمية متتبعة خطى رائدات السينما في مصر. ومن خلال الفيلم نعرض أنها تركت عملها في أحد البنوك وطوعت دراستها لللاقتصاد في أكسفورد لتروى شغفها بالسينما وفضلت العمل إلى جوار خالها شاهين طوال 30 عاما فشاركته كمخرجة منفذة في عدة أفلام منها» وداعا بونابرت» و«إسكندرية كمان وكمان»، و«اليوم السادس». ثم اعتمدت ماريان في مشروعاتها الإخراجية على سرد حكايات الناس فبدأت مشوارها الإخراجى بفيلم «زمن لورا» عام 1999 تلاها فيلم «عاشقات السينما» 2002 ويكشف هذان الفيلمان التسجيليان عن إنجازات النساء المتمردات في مصر منذ نحو قرن.
تؤشر ماريان بفيلمها إلى أهمية الترابط الأسرى في وقت يعانى منه المجتمع من التفكك الأسرى ونسب طلاق مرتفعة وأجيال مفككة يملؤها الحقد تجاه أسرة الأب أو الأم، في حين سنجد في رحاب «احكيلي» هذه الأسرة التى تمثل الثقافة السكندرية ستجد للنساء مكانة مهمة في العائلة يلقين دعم الرجال لخوض مجال العمل ولهن صوت مسموع وكلمة تسرى على أفراد العائلة، كما أنهن مرجع «تاريخى» لكل صغيرة وكبيرة في الأسرة، لا يبخلن بسرد حكايات طريفة ومؤثرة عن أى من أفراد الأسرة وقصص الحب والزواج كما كانت أحوال أسرنا خلال الحقب الماضية. يضعنا الفيلم أمام تساؤلات كثيرة حول هوية المجتمع المصرى وماذا حدث له؟!
أما ابنتها سارة التى تدرس السينما في كوبا، فقط طرحت عدة تساؤلات تحير الجيل الجديد من المصريين سواء ذوى الأصول المختلطة أو من أبناء المصريين في الخارج، فهم يعشقون مصر لكنهم يجدون صعوبة في الاندماج مع المجتمع المصرى الحالى الذى يستشرى فيه الانغلاق الفكرى والرجعية!
الفيلم ستكون له أصداء عالمية مشرفة كونه رصد أحوال أسرة يوسف شاهين كأسرة تركت بصمة في تاريخ السينما المصرية ولا تزال ترعى أجيال جديدة من السينمائيين، وفى رأيى أنه نجح في أن يرصد تحولات المجتمع المصرى ويجعلها في خلفية الأحداث الدرامية والأهم أنه يطرح التساؤل حول مستقبل الأجيال الجديدة في مجتمعنا.