لو عنونت عام 2019 بما حضرتُ، وتفاعلت نقاشا أو كتابة عنه، لحملّتهُ توصيف عام الفُرجة «السينما والمسرح»، لعلى اتخذت منهما بلسم جراح وفك غصة ما نعبره من مخاضات عصية عسيرة في أوطاننا التى ورثت وحصدت الهشيم، ففى السينما وبعضها عرض أول أو حائز لجائزة دولية (كما ماعرض بمهرجان القاهرة السينمائى أونادى السينما الأفريقية، أو سينما المرأة العربية) تسنى لى مشاهدة أفلام لدول كلبنان (الشهيد)، والسودان (ستموت في العشرين)، وفلسطين (عائد إلى حيفا)، واوكرانيا، وسلوفينيا، وروسيا، وبلغاريا، والبرازيل، والمكسيك، واليابان، والتى لايتاح عرض أفلامها لا بمحطات دولها تشجيعا ودعما، ولا بمحطات مختصة مجالها عرض الأفلام وعلى انتشارها مؤخرا، فغالبا ما يجرى التمركز حول عالمى «هوليود» و«بوليود»، بل إن بعض القنوات (العربية) السينمائية مؤخرا تخالف المعايير الأخلاقية وتسرق أفلاما لم يمض شهر على عرضها الأول بدور السينما العالمية، وتبثها لمرات، وأكتشف ذلك كلما وضعت اسم الفيلم على محرك البحث الغوغول، فلا أجد إلا برومو الإعلان الدعائي، وأن الفيلم لم يتح بعد للعرض الإلكتروني، وغير ذلك فإنه يرد تنبيه لكل مخالف للمعايير القانونية ويعرض صاحبه المخالف لاستيفاء الحق القانونى عند العرض أو التوزيع من غير المصدر.
وفى المسرح أستاذ الشعوب وإن غابت عن معلمها، تتبعت عروضا كانت نماذجها من المسرح الفرنسي، والأمريكي، والياباني، والأفريقي، فهذا العام فيما شاهدت كان تعبيريا ينزع إلى إهمال الكلام/ الحوار، ويصير الصمت أو التعبير الجسدى معادلا أو ربما يصير متجاوزا متعالا عنه، وكأن الحوار بدا عاجزا عن إدراك هذا العبث الذى يعيشه عالمنا، فقد صارت الإنسانية في خطر، وقُدمت فيه أرواح الناس مجانا لمذابح التطرف الداعشى تحت سمع وبصر ورصد دقيق عتادا وعددا لقوى العالم المتحضرة!، كما صك قبول للردة والنكوص إلى عالم التوحش وذهاب العقلانية.
وقد تذكرت «عنوان الفرجة» لعامى الماضي، وأنا أحلم بإتاحة وسائل وأدوات المدنية وقوى الثقافة وتشكيل الرأى مبتدأها مكتبة بما يدور فيها من جلسات رأى وحوار، ودور سينما ومسرح، ونوادى رياضة، لتلاميذنا في يوميات مدارسهم الأولى، ثم يتاح كل ذلك بأسعار مناسبة لشبابنا، والعائلات، وكنت استجبت لما دعتنى إليه مشكورة الأسبوع الماضى الناقدة الدكتورة ناهد عبدالحميد المدير والمؤسس لملتقى الهناجر الثقافى (بدار الأوبرا) والمحاورة لمواضيع جلساته، وقد كان نقاشا حول «القوى الناعمة ودورها في المجتمع» وإن تمركز حول الغناء والدراما، قاده من على المنصة د. صلاح فضل، ود. زين نصار، والأستاذ محمود امسلم، ود. لوتس عبدالكريم، ود.أشرف عبدالرحمن، وتولت الفقرات الموسيقية «فواصل الغناء» فرقة أوتار الموسيقية، تمركز النقاش على غياب أدوار القوى الناعمة، وقد ذهب د. فضل إلى «نوعية» تلك القوى، والتى يجرى تسويدها «شعبويا»، وقدم مقترحا توجه به إلى القنوات الفضائية التى في نظره فشلت في توعية المتلقى وتحريك مكامن انسجامه وتفاعله بالشكل اللائق، بما تجره إليه من إسفاف لا يرتقى بذوقه بقدر ما يضرب قيم المجتمع وثقافته ووعيه، ونادى بتخصيص ساعة أو ساعتين يوميا وسط ذلك الغث، تجول فيه القناة في فنون محلية مغيبة ومن قلب بوادى وحواضر مصر، وتنوير المتلقى بثقافة وفنون العالم المتنوعة، ومنها الموسيقية مسترجعا نموذج السيمفونيات التى لا يعرف عنها الجيل الجديد شيئا،كما ألقى بالأئمة على الفنانين (المغنيين) الذين أساءوا للذوق العام باستحضار فن الشارع بما هو عليه دون تشذيبه وتهذيبه كونه فن الناس وفن «ظاهرة اللحظة» لكن ذلك لايعنى نقله إلى شاشات العرض ومنصات المسرح لإشاعته وجعله مجرى الألسن والمثال الرائج.
وعرج بنا أستاذ النقد زين نصار إلى عوالم كان الفنان فيها بين الناس، يقارب أحوالهم ومشكلاتهم ويتفاعل بفنه معها، ويجعل من مواطنى المجتمع شريكا في إيجاد الحلول والخروج من الأزمات، ومما قدمه من حكايات في كتابه عرفها أو سمع عنها عن الفنانين الكبار كسيد درويش، ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم، مشيرا إلى حالة الاغتراب عن المجتمع التى يتعالى فيها الفنان ولا يكون همه إلا موضة تسريحة شعره أو ما يأكل ويشرب ويلبس ويتفسح، ومايحققه عمله من مبيعات يكون التنافس فيها مع آخرين حروبا على أشدها،ليست نشدانا لمفاعيل عمله وتعاطيه تأثيرا بين جمهوره،وختم أن القوى الناعمة من المفترض جعلها تثير وعى الناس وتوصلهم لحالة وعى بأدوارهم، وتجاه بعضهم البعض وليست للمتعة والكييف فقط!.
الدكتورة لوتس عبدالكريم اعتبرت «الإسكندرية» بتاريخها القديم والحديث مثالا حيا لتجذر أدوار القوى الناعمة نوعا وأثرا، ففى سيرتها بالمكان حكت عن الانفتاح والاستنارة التى شهدتها مكتبة الإسكندرية منذ مبتدأ تاريخها، كما الصحافة والفنون ومقاهٍ يؤمها الناس، ومنها للفرجة على الأفلام والتى لم تكن بدور السينما فقط، وكنت التفتت إلى ضيفة مدعوة مثلى وقد تعارفنا، وقلتُ لها إن كاليماخوس القورينائى المولود
بـ «شحات» شرق ليبيا عاش بالإسكندرية وهو مؤسس علم المكتبات عالميا، وعمل كأول أمين ومصنف لآلاف المخطوطات لهذه المكتبة، فأبدت استغرابا وردت على بأنها لأول مرة تسمع بهذه المعلومة، وهل ذلك صحيح ومعقول؟!، ووسط ما بثته المنصة من آراء ونقاشات وإن لم يجر ترتيب إشراك نماذج من جمهور ملأ الصالة بها، أُفردت مساحة لاستعادة أجواء من الفن الأصيل ما يميل ويحن السامعون له: عبدالحليم حافظ، أم كلثوم، كارم محمود، شادية، وفى ظنى أن عدم الانفتاح وتخصيص بعض التفاتة لفنون عربية أخرى ومصر حاضنة لفنانيها، فيه حكر وقصر وإغماضة عن قوى ناعمة تتشارك الهدف والحال العام الذى نحن فيه، وقد تجاوز جيل من شباب اليوم ذلك وصارت موبايلاتهم تشنف آذانهم بالغناء، ومنه الراب العربى بمختلف صنوفه.