قبل القفز إلى الأمام والكتابة عن قاسم سليمانى وأردوغان ورصد التحرش التركى بثروتنا في البحر المتوسط وأوهامه الداعمة لكتائب الإرهاب المتأسلم المسلح.. قبل أن أستغرق في تحليل التحرش المتبادل بين أمريكا وإيران ومقتل سليمانى صاحب توكيل الحرس الثورى الإيرانى وتصاعد المراوغة الأمريكية التى تحارب الإرهاب في طهران وتسكت عنها في طرابلس.. لا بد أن أرجع خطوة واحدة إلى الخلف وأقف هناك في مدينة المنصورة لكى أشبع حزنا وأنا أتابع قطيع التخلف وهو ينهش جسد فتاة مصرية كان من الممكن لها أن تكون ممرضة لجنودنا وقت الحرب.. فتاة وحيدة يتكالب عليها عشرات إن لم يكن مئات من الشباب الذين قلنا عنهم ذات يوم إنهم ذخيرتنا في المستقبل.
قبل سنوات قامت الدنيا ولم تقعد في مصيبة تحرش ميدان التحرير زمن الثورة وانتهت تلك القيامة في المستشفى ببوكيه ورد أحمر من رئيس الجمهورية إلى الضحية مصحوبة باعتذار صادق لها.. يومها توقعت أنها البداية لمحاصرة عشوائية العقول والأرواح التى خربت بفعل سنوات من التجهيل والدجل والفهلوة.. يومها توقعت إصلاحا تشريعيا يتعامل مع قضايا التحرش باعتباره شروعا في القتل.. توقعت وخابت توقعاتي.
المنظومة ما زالت على حالها.. بؤس في الشارع وخوف وبلطجة وثعالب صغيرة منفلتة تتربص بك لتنهش ما تبقى لك من كرامتك.
التحرش ليس مشروطا بأن تكون ضحيته فتاة صغيرة أو سيدة مسنة.. التحرش يطال الجميع من سباب قذر يخترق طبلة الأذن.. وصولا إلى خطف موبايل على محطة مترو غمرة ليسقط الضحية شهيدا تحت عجلات القطار.. على نفس الإيقاع العشوائى تسير بنية المجتمع وثقافته ووعيه.. قبل يومين في مدينة المنصورة عروس الدلتا رأينا البربرية تطل برأسها تنتهك حق المشى في الشارع لفتاة مصرية.
يوميا تقرأ عن الضباع العاوية في الشوارع ونهرب نحن الضعفاء لنمشى داخل الحيط وليس بجانبه، فالمشى بجوار الحائط صار في منتهى الخطورة.. إما نختبئ داخل بيوتنا أو نغامر بالمشى على الرصيف..
الدولة نفذت شبكة طرق بمستوى عالمى واستطاعت السيطرة على سعر صرف الدولار أمام الجنيه بعد التعويم.. تسابق الزمن ولكننا بكل صدق نفتقد الالتزام في الشارع.. العاصم الوحيد للدولة ولنا هو الاتجاه بكل قوة لإعادة ضبط وعى المجتمع بالثقافة والفنون وفرملة التطرف ومطاردة التعصب بالعدالة الاجتماعية باحترام الحقوق الشخصية بتعديل القوانين الرثة.. بانتهاء زمن الوصاية بالتطور العلمى بالمحاكمات العاجلة لكل لصوص المال العام.. بنظافة الشارع.. التحرش ليس فقط ملامسة الأجساد والصوت الزاعق في الشارع.. التحرش هو كل اعتداء على إنسانية خلق الله رجلا كان أو امراة..
والعجيب هو أننا نريد، بل نحن في أمس الحاجة إلى سياحة متدفقة وعملة صعبة وصناعة وتصدير وتطوير مستشفيات نريد كل هذا بينما النزيف متواصل في أرواح وعقول أجيال متوالية تمت تربيتها على العنف واللصوصية والاعتداء.. كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟
كتبت مثل هذا الكلام مئات المرات على مدى عمرى الذى يقترب من محطته الأخيرة وما زلت أمشى بجوار الحائط خوفًا من العشوائية..كتبت مثل هذا الكلام على منصات مختلفة وكان أملى هو أن يصادفنى قلب يقرأ.. ولكن فيما يبدو أننى أصرخ في الفراغ، فهل نتوقف عن الكتابة طالما حروف الأبجدية غامضة؟
ننتصر على هتلر التركى بالالتفات إلى الداخل.. نكون رقما صعبا في معادلات طهران وواشنطن والخليج وشمال أفريقيا بسلامة الجبهة الداخلية.. نحارب على كل الجبهات وننتصر بوحدة الصف وموت الواسطة ومكافحة الفساد.. لست قلقا على قدرات جيشنا العظيم ولكننى مرعوب من الشارع المصرى وأمراضه.
اسمها المحروسة وستظل محروسة رغم كل ما يعترضها من معوقات اسمها المحروسة وتنتظر مائة مليون عقل ناضج ليصعد بها إلى ما يليق بها من تقدم وتنمية وعدالة ورخاء.