من هو هنرى كورييل؟ اسم طواه النسيان، قادم من سنوات القرن العشرين الأكثر «ثورية» وعنفًا والتى ميزها انقسام العالم حول المعسكرين الاشتراكى والرأسمالي، أو الكتلة الشيوعية والعالم الحر. قُتل كوريل في باريس في ٤ مايو عام ١٩٧٨ على يد مجهولين وبقى اغتياله سرًا كما وقع حينها لكثيرين ممن انخرطوا في الصراع الدولى إلى جانب أحد الأطراف.
ولد هنرى كورييل في ١٣ سبتمبر عام ١٩١٤ لعائلة فرانكوفونية يهودية من أصول إيطالية استقرت في مصر التى كانت حينها تعتبر قبلة للمهاجرين والطامحين خاصة من دول الجوار الأوروبى المتوسطية. تلقى تعليمه في المدارس الفرنسية في القاهرة واطلع، مثله في ذلك كمثل الطلاب الأوروبيين، على كتابات أندريه مالرو وبول نيزان وأندريه جيد، ولكنه التقط كذلك «فيروس» الماركسية الذى لازمه طيلة حياته. غير أن كورييل لم يدرك فعلًا جدوى النظرية الشيوعية إلا عندما لمس بأم العين المظالم الفظيعة التى كانت تمارس بحق فقراء مصر في مصانع ومزارع البشوات والأغوات والرأسماليين الصاعدين والذين كان والده ينتمى إليهم.
قطع هنرى كورييل كل صلاته مع أبناء البرجوازية المدللين من زملاء الدراسة ليصبح مناهضًا للاستعمار، قبل أن يحصل على الجنسية المصرية بالرغم من أنه لم يتحدث اللغة العربية بطلاقة أبدًا. وانطلاقًا من أوساط الثلاثينيات، كرّس كورييل نشاطاته لمناهضة الفاشية الصاعدة في إيطاليا وألمانيا واضعًا نصب عينيه في الوقت ذاته مهمة كبرى تتعلق بتجميع الشيوعيين المصريين المتفرقين والمتشرذمين في حزب يعبر عنهم ويقودهم. وبالتوازى مع النشاط السياسى المكثف، الذى كلفه السجن عام ١٩٤٢ بسبب تنظيمه للمقاومة ضد الألمان في مصر، فقد شارك عام ١٩٣٩ مع شقيقه راؤول والصحفى والكاتب السريالى جورج حنين في الحركة الأدبية والفنية الطليعية في مصر بتأسيس أسبوعية «دون كيشوت» و«مجلة الشباب» الملتزمتين واللتين اتسمتا بتجديد فريد.
عام ١٩٤٣ شكّل كورييل «الحركة المصرية للتحرر الوطني» (حمتو) والتى دخلت على الفور في منافسة حامية مع التنظيمات الشيوعية السائدة وقادتها من يهود مصر كذلك القادمين من الأوساط البرجوازية نفسها كـ«إيسكرا» (التى تعرف بالمصرية باسم «الشرارة») بقيادة هليل شوارتز و«تحرير شعب» بقيادة مارسيل إسرائيل. أما المهمة الأساس التى برزت على رأس قائمة مهام الشيوعيين المصريين حينها فكانت إنهاء الاحتلال البريطاني، خاصة في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية متفجرة تمخضت عن عاصفة من الإضرابات العمالية والطلابية بدءًا من عام ١٩٤٦، وسيطرة شبه كلية للجيش البريطانى الذى بقى مرابضًا في معظم الأراضى خلافًا لمعاهدة ١٩٣٦ ونصها الصريح بحصر انتشاره في القناة.
لكن ما لم يمكن بالحسبان هو ذلك التطور الإقليمى والدولى الكبير والمتمثل بإعلان قيام دولة إسرائيل والارتباك الكبير الذى طبع مواقف الحركات الشيوعية العربية التى كانت في غالبيتها تدور في الفلك السوفيتي. وبالرغم من أن «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو)، التى نتجت عن اندماج «حمتو» و«إيسكرا»، كانت واضحة في مناهضتها للحركة الصهيونية، إلا أنها غيّرت مواقفها تمامًا حين طرحت موسكو قرار التقسيم وأيدته الدول الكبرى ورعته الأمم المتحدة.
فيما بعد، سمحت علاقات كورييل الواسعة في فرنسا ومصر وغيرها بلعب دور سياسى كبير في النزاع الفلسطينى الإسرائيلى وتمكن من الوساطة بين الراغبين في السلام من الجانبين. وقيل وقتها إن كورييل كان في مبادراته يتمتع بدعم كبير من الرئيس السوفيتى حينها يورى أندروبوف.
سجن هنرى كورييل ثمانية عشر شهرًا بسبب المشاركة في التحركات المناهضة لحكومة الملك فاروق والمطالبة بإنهاء الاستعمار، ثم حرم من جنسيته المصرية قبل أن يتم نفيه بتهمة «الشيوعية» في ٢٦ أغسطس ١٩٥٠ إلى إيطاليا أولًا ثم إلى فرنسا التى لم يتركها حتى وفاته.
وفورًا بدأ كورييل بنسج علاقات مع الحزب الشيوعى الفرنسى ما لبثت أن توترت بسبب النزعة الاستقلالية التى كان يتمتع بها في مواجهة حزب قليل التسامح تجاه «الانحرافات» عن الخط الذى يقرره الاتحاد السوفيتي. وكان الحزب الشيوعى الفرنسي، الذى يقوده موريس توريز، قد بدأ بعد الحرب العالمية الثانية حملة تطهير واسعة طالت مناضلين وقياديين ومقاومين سابقين كانوا على ما يبدو «مستقلين» أكثر من اللازم. بعد قليل سيتم إعلان هنرى كورييل «عدوًا للحزب». وكان الحدث الأبرز الذى تسبب في توتر العلاقات قيام جمال عبدالناصر ورفاقه بثورة يوليو التى شجعها كورييل وكان يعرف شخصيًا العديد من الضباط الأحرار. في المقابل، كان الحزب الشيوعى الفرنسى المنسجم مع المواقف السوفيتية، قد نعت الثورة المصرية بالانقلاب والنظام الجديد بـ«الدولة الفاش».
كانت فرنسا في ذلك الوقت غارقة في حربها ضد استقلال الجزائر ووجد هنرى كورييل لنفسه دورًا نضاليًا متجددًا في دعم «جبهة التحرير الوطنية» الجزائرية عبر الانضمام إلى ما كان يعرف حينها بـ«شبكة جانسون» نسبة إلى الفيلسوف الفرنسى فرانسيس جانسون. وكان العمل الرئيس لعناصر الشبكة، الذى أطلق عليهم اسم «حاملى الحقائب»، تأمين جمع ونقل الأموال والمستندات وعمليات تزييف بطاقات الهوية وجوازات السفر وغير ذلك في خدمة ثوار الجزائر. عرف كورييل في أوساط الشبكة بالشجاعة والحس التنظيمى العالى الذى جعله عضوًا فعالًا للغاية فيها، وذلك قبل أن تتمكن الدولة الفرنسية من تفكيكها عام ١٩٦٠ واعتقال كورييل وسجنه ١٨ شهرًا. انتقل بعدها كورييل إلى تأسيس «الحركة الفرنسية المضادة للاستعمار» ومنظمة «التضامن» التى ساهمت الجزائر في تمويلها بعد الاستقلال ودعمت حركات المعارضة الديمقراطية في العالم الثالث وخاصة في أفريقيا وحركات اليسار الراديكالية في دول أوروبية مختلفة كإسبانيا والبرتغال واليونان وكذلك في أمريكا اللاتينية.
في عام ١٩٧٦، بدأ الصحفى الفرنسى جورج سوفير حملة دعائية ضد كورييل اتهمه فيها بتكوينه شبكة لدعم الإرهاب الدولى يقودها جهاز المخابرات السوفيتية. بعد ذلك بعامين، وفى الرابع من أيار/مايو، دخل رجلان مسلحان إلى فناء المبنى الذى كان كورييل يقيم فيه في ٤ شارع رولين في باريس وانتظرا خروجه، في الساعة الثانية بعد الظهر، نزل كورييل فتم قتله على الفور بأربع طلقات.
وتقوم الشرطة بنقل جثمان المغدور كورييل من منزله في ٥ مايو ١٩٧٨، وتعلن كل من قوات «كوماندو دلتا»، وهى فرق اغتيال سرية مناهضة لاستقلال الجزائر، وجماعة «شارل مارتيل» الفرنسية اليمينية المتطرفة، مسئوليتهما عن حادث الاغتيال، غير أن المسئولية الفعلية لا تزال موضع شك كبير وذلك على الرغم من أن تحقيقات الشرطة أظهرت أن الطلقات النارية المستخدمة هى من النوع ذاته الذى استخدم في اغتيال لعيد سباعي، الحارس الليلى لمبنى جمعية «أصدقاء الجزائريين في أوروبا» عام ١٩٧٧.
دفن كورييل في ١١ مايو عام ١٩٧٨ في مقبرة بير لاشيز الباريسية تم إنشاء جمعية هنرى كورييل التى يرأسها القس رينيه روجنون لإحياء ذكراه والتذكير بأهمية الكشف عن أسباب اغتياله والواقفين وراء عملية الاغتيال.
وفى رسالة حديثة طلبت عائلة كورييل، وعلى وجه الخصوص الصحفى الفرنسى آلان غريش، من عمدة بلدية باريس الاشتراكية آن إيدالغو أن يتم تسمية درج يربط بين شارعين يحيطان بالمبنى الذى عاش فيه وقتل قربه باسم «هنرى كورييل» وذلك تكريمًا «لنضاله العالمى ومعركة السلام التى خاضها».