الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكايات من دفتر الوطن «٢».. يوم اغتيال الجنرال «كليبر»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
.. وتتواصل رحلتنا معًا مع المؤرخ والكاتب الكبير صلاح عيسى، وكتابه الشيق والممتع «حكايات من دفتر الوطن».
يأخذنا صلاح عيسى بأسلوبه البارع في الحكى والسرد، إلى رحلة مدهشة في أعماق التاريخ، إلى حكايات تفيض بالشجن والقهر والأحزان، والخيانة والمقاومة، والاضطهاد والقتل، حكايات تنقل قارئها إلى الزمن الذى جرت فيه الأحداث بكل ملامحه وشخوصه ومبانيه وحوادثه وصحفه وفنونه، حكايات مليئة بالصور التاريخية النادرة لأبطال الزمان الذى ولى، بشرًا وأماكن وحوادث. 
وقف المؤرخ الكبير صلاح عيسى في الفصل الثانى من كتابه الممتع، والذي حمل عنوان «الموت على تل العقارب»، تحديدا أمام يوم السبت 14 يونيو عام 1800، يوم اغتيال الجنرال «كليبر» قبل أن يكمل عامه السابع والأربعين، ولم يكن أحد يظن أنه سيلقى حتفه في ركن من حديقة قصر المملوكى محمد بك الألفى، بميدان الأزبكية - تشغله الآن محطة بنزين على ناصية شارع الألفى والجمهورية، بعدما نجح سليمان الحلبى في قتله وطعنه في بطنه وذراعه وخده الأيمن.
حينئذ اندفع الجنود الفرنسيون كالمجانين في كل الشوارع يضربون كل من يقف في طريقهم، قتل الفرنسيون بسيوفهم وخناجرهم جميع من صادفهم من الرجال والأطفال. 
رائحة الدم
يعدد عيسى المذابح والجرائم قائلا: لقد ارتكب «نابليون بونابرات» وقائده «كليبر»، العديد من المذابح التى تقشعر من هولها الأبدان، حتى تشبعت الصحراء برائحة الدم، وباتت السيوف سيدة الموقف، فبعد أن استسلمت مدينة العريش، اندفع الفاتحون يقتلون بوحشية كل من يصادفهم من أهلها.
وفى شوارع «يافا» تعفنت الجثث وقتلوا الأطفال والشيوخ، واغتصبن الفتيات وهن بأحضان أمهاتهن!!، وأعدموا نحو ثلاثة آلاف من الجنود الأسرى، من مصر والشام والمغرب وتركيا، رميا بالرصاص، وكان أمل الأسرى الوحيد في النجاة هو أن يلقوا بأنفسهم في البحر، وحاولوا كلهم الهرب سباحة فضربوهم بالرصاص على مهل، واصطبغ ماء البحر بدمائهم، وانتشرت الجثث على سطح المالح.
وتكررت ذات المجزرة بكل تفاصيلها أسفل «جبل الطور» وارتوى جيش كليبر بدماء الجيش الدمشقى.
وحينما اقتحم كليبر «بولاق»، فعلوا بأهلها - كما يقول الجبرتى - ما تشيب من هوله النواصى، صارت القتلى في الطرقات والأزقة، واحترقت الدور والقصور، أما الأزبكية وما جاورها من الأحياء التى دار فيها القتال، فقد صارت كلها تلالًا وخرائب، حتى تبدلت محاسنها. 
جراح الثورة
وسط تلك الأحداث الدموية والجرائم التى اقترفتها الحملة الفرنسية، وقف عيسى أمام قاتل «كليبر» ذي العمامة الخضراء، الشاب البسيط «سليمان الحلبى» - 24 عاما - القادم من قلب القهر، الذى لم يعن أحد بأن يكتب تاريخه، فهو ابن تاجر الزبد الحلبى، شاب قلق، كثير التجوال في فلسطين ومصر وسوريا والحجاز، ولابد أنه سمع بما فعله الفرنسيون بأهل «يافا» ومحمية «دمشق» و«العريش»، و«الوراق» وحتما استشاط غضبًا للظلم والقهر والدماء التى سالت في وطنه.
يقول صلاح عيسى: لكن لا أحد يعرف كيف نبتت بداخله فكرة مشروع اغتيال الجنرال الفرنسى، وطبقا لرواية الحلبى فقد نشأت الفكرة خلال حوار بينه وبين محافظ القدس «أحمد أغا»، أسفر عن اتفاق بأن يتوجه «سليمان» إلى القاهرة لتنفيذ المهمة.
وعندما وصل إلى القاهرة مرورا من «القدس» إلى «غزة»، في منتصف مايو 1800، كانت القاهرة في أسوأ حال، لا تزال تلعق جراح الثورة، وأثار الحرائق في كل شوارعها، والحوانيت مقفولة، والعقول مخبولة، والنفوس مطبوقة من هول ما جرى. 
اللحظة المناسبة
أمضى «سليمان الحلبى» شهرًا كاملًا في القاهرة، كانت الثورة قد خمدت، أما أعمال الثأر فكانت في قمتها، وكان «كليبر» يطبق قاعدته الديمقراطية: رءوس أقل تذبح، وأموال كثيرة تنهب، وفرض الغرامات على كل الفئات، فضاق الخناق على الناس، وتمنوا الموت ولم يجدوه.
فيما استقر الحلبى في منطقة «الأزهر» والتقى بأربعة من أصدقائه، جميعهم من غزة، أكبرهم «عبدالله الغزى»، وثانيهم «أحمد الوالى»، وثالثهم «محمد الغزى»، وهرب الرابع «عبدالقادر الغزى» عقب مقتل كليبر.
فيما سهل المشايخ الأربعة لـ«سليمان» الالتحاق بالجامع الأزهر والإقامة به، وعلى عكس ما نصحه محافظ القدس بأن ينفذ عملية القتل، نصحوه هم بعدم الإقدام، وأشاروا إلى الصعوبات التى تحول دون تنفيذه، ونبهوه إلى أنه سيقتل، لكن «سليمان» صمم على الثأر.
وشرع في تنفيذ المهمة بعدما توصل «الحلبى» لمعرفة مكان إقامة الجنرال، أخذ يراقب موكبه، وعلم أنه يذهب إلى حديقة الأزبكية، ليتفقد أعمال الترميم في مبنى القيادة العامة، واقتنص اللحظة المناسبة ونفذ مهمته وقتل الجنرال، وقبض عليه. 
الطيور الجارحة
انتهى التحقيق في اليوم نفسه، وأصدر الجنرال «مينو» الذى خلف كليبر أمرًا بتشكيل المحكمة من تسعة من قادة الجيش، وأسفرت التحقيقات عن اتهام «سليمان الحلبى» والأزهريين الأربعة الذى أفضى إليهم بعزمه!!
وقد حكمت المحكمة بإدانة «سليمان»، وحرق يده، ثم يوضع على الخازوق حتى يموت وتنهش الطيور الجارحة جسده، وقضت المحكمة بإدانة الشيوخ الثلاثة وقطع رءوسهم، وأن توضع على نبابيت.. أما أجسامهم فتحرق بالنار لاشتراكهم في الجريمة، لعدم إبلاغهم عنها رغم علمهم المسبق بها، على أن يكون ذلك أمام «سليمان الحلبى» قبيل محاكمته، فيما أرجع المدعى العام جريمة «سليمان» إلى التعصب والهلاوس الدينية!! 
تل العقارب
حانت لحظة تنفيذ حكم الإعدام تزامنا مع مراسم تشييع جنازة «كليبر»، فقد أنزل النعش من فوق عربته، ووضع على «تل العقارب» حيث بدأت مراسم تنفيذ الحكم في «سليمان الحلبى» وشركائه في انتظار وصول الجثمان، حيث تقدم محافظ القاهرة اليونانى «بارتليمى» وأطاح بسيفه برؤوس طلاب الأزهر الثلاثة، وتسلم معاونوه الرؤوس المخضبة بالدماء ورفعوها فوق عصى طويلة، بينما أشعلوا في جثثهم النيران.
بعدئذ تقدم المحافظ نحو «سليمان» ووضع كفه في الجمرة، فلم يصرخ «سليمان» ولم يتكلم والنار تأكل لحمه الحى، غير أنه اعترض حين تعمد «بارتليمى» أن يعدل من وضع يده لتطول النار مرفقه، منبها إياه إلى أن الحكم لم يذكر المرفق بل اليد فقط، وتشاجر «سليمان» مع «بارتليمى» ونعته بالكلب، وأصر على حقوقه ولم يكف عن الاحتجاج إلا حين أزيحت عن مرفقه الجمرة.
وبعد أن احترقت يد «سليمان»، بدأت تنفيذ القسم الثانى من الحكم الصادر بحقه، وقام «بارتليمي»، بعملية الخوزقة بمهارة، أحضر قضيبا مدببا من الحديد، ثم بدأ في إدخاله في شرج «سليمان»، بالدق بمطرقة خفيفة، حتى لا يحدث نزيفا يؤدى إلى موته قبل أن يتعذب بما يكفى، ثم رفع الخازوق قائما، وعليه «سليمان الحلبى»، ثم غرس على الأرض.. ولنا لقاءٌ آخر نستكمل فيه رحلتنا.