قضيت في المملكة المتحدة ست سنوات، بين عامى ١٩٩٧ و٢٠٠٣، وكانت فترة مهمة في حياتى ليس فقط على المستوى المهنى ولكن أيضا على المستوى الإنساني.
فقد تعرفت على ثقافة شعب متحضر وله تاريخ طويل من الإرث الثقافى والعلمي، مثله مثل الشعب المصري. وتعرفت على عادات وتقاليد المجتمع الإنجليزي، وكَوْنت صداقات مع زملاء من مصر والبلاد العربية، ومع عدد غير قليل من الزملاء من جنسيات أخري، وصرنا أصدقاء حتى اليوم.
ورغم مرور فترة طويلة على عودتى إلى أرض الوطن، فمازالت ذكريات الأحاديث التى جرت بينى وبين الزملاء في الدراسة والعمل وحتى في السكن والمواصلات خالدة في ذاكرتي. لأنها كشفت ليً بعدًا آخر من العلاقات الاجتماعية في المجتمع البريطاني، وهو مجتمع متنوع يعيش فيه كل الجنسيات والديانات في حرية تامة، خاصةً في المدن الكبيرة مثل لندن وبرمنجهام ومانشستر وجلاسجو وأدنبرة.
ومع تكرار اللقاءات الاجتماعية، والنقاشات في الثقافة والسياسة والفنون والآداب، اكتشفت عمق التأثير المصرى في وجدان كل دول العالم، واكتشفت أننا نحن المصريين لاندرك حقيقة عظمة مصر في عيون الآخرين، واكتشفت أيضًا أن البشر رغم الاختلاف في الدين والثقافة والموروثات الاجتماعية، يتفقون على أن مصر، رغم ما تعرضت له من تجريف على مدى عدة قرون، مازالت تشع حضارة وثقافة وفن على كل الحضارات القديمة والحديثة.
وأعرض في هذا المقال، كيف وجدت مصر في عيون الآخرين، وكيف تغيرت آرائى وقناعاتى بأن الآخر مهما كانت درجة اختلافى معه، فهو جدير بالاحترام والثقة المتبادلة، وإجراء حوار مبنى على الندية والموضوعية والعقلانية والتجرد من أى أفكار سابقة، كنت قد كونتها في ظروف مختلفة عما عايشته بنفسى في المملكة المتحدة.
أولًا: مصر في عيون العرب:
مع أول حديث مع أى مواطن عربي، مهما كانت ديانته أو جنسيته، تدرك مدى حبه وتقديره لمصر وشعبها وحضارتها، ورغبته القوية في زيارة مصر أو السكن مع المصريين. ولقد أكد لى أحد الزملاء من المملكة العربية السعودية، أن كل سعودى يذهب إلى مصر لايريد العودة مرة أخرى إلى المملكة، وكانت دهشتى عندما اكتشفت مدى التأثير القوى للفيلم، والمسلسل، والمسرحية، والكتاب المصرى على كل العرب. بل وأدركت أن النكتة والمَثَل والضحكة الطويلة لاتخرج إلا من خلال الفن المصري. حتى الزملاء من بلدان المغرب العربي، والذى كان من الصعب فهم اللهجة التى يتحدثون بها، فقد كانت اللغة المشتركة بيننا هى المواقف الظريفة في الأفلام المصرية. أما الزملاء من السودان وليبيا واليمن وفلسطين والأردن، فتشعر أنهم مصريون، وكثير منهم ولدوا لأمهات مصرية، وكانوا يطلقون على كل مصرى لقب «الخال».
أما الزملاء من لبنان وسوريا والعراق، فمع خفة دمهم وحبهم للحياة، كانت كلمة مصرى بالنسبة لهم تعنى النجاح، نظرا للنجاح الذى يحققه المصريون في الخارج من نجاحات في كل المجالات. وكانت الصفة الغالبة على الشوام هى عشقهم لجمال عبدالناصر. وأتذكر في مرة اقترب منى شاب سورى بالأحضان وهو يقول، «انت شكل عبدالناصر وعلشان كدا أنت حبيبى وفوق رأسي»، وقد تكرر ذلك عدة مرات مما أعطانى الإحساس بأننى لست ناصريًا بالفكر فقط وإنما بالشكل أيضًا!
أما الزملاء من بلدان الخليج العربي، فقد كانت مصر بالنسبة لهم هى الجوهرة الكبرى، والبلد المفضلة للزيارة، وكثير منهم كانت إجازته السنوية يقضيها في القاهرة أو في الإسكندرية. ببساطة أدركت أن مصر بالنسبة للعرب من الخليج الهادئ إلى المحيط الهائج هى الحب الأكبر والحضن الدافئ، رغم تباين السياسات واختلاف الساسة مع الحكومات المصرية.
ثانيًا: مصر في عيون الأخوة الأفارقة
تعاملت مع العديد من الزملاء من أبناء القارة السمراء، وخاصة من نيجيريا وجنوب أفريقيا، وقد أدهشنى حبهم لمصر، كما أدهشنى مستواهم العالى في التعليم والتدريب الطبي. وبصفة عامة، عندما تقابل أى أفريقي (من جنوب الصحراء)، تشعر بمدى التقارب والحميمية في التعامل. وبدون أى مبالغة، أستطيع أن أقول إن قلوب الأفارقة متطلعة إلى مصر، باعتبارها الأكثر تقدمًا، وأنهم يشعرون بالمرارة لأن مصر دائما تنظر إلى الشمال، ولاتهتم كثيرا بالجنوب. ومازلت أتذكر قول زميلة من كينيا، «مصر تخسر بدون أفريقيا، وأفريقيا تخسر بدون مصر»
Egypt loses without Africa and Africa lose without Egypt
ثالثًا: مصر في عيون المواطن الإنجليزي
على عكس مايظن البعض، وماكنت أنا أظنه قبل التعامل المباشر مع المواطن الإنجليزي، فقد وجدت إنه إنسانًا متحضرًا ومثقفًا، وشديد الاحترام لبلده وللآخرين، يعيش مع نفسه ولا يشغل باله بالآخرين، تربى على قبول الآخر واحترام خصوصيته. واكتشفت أن بعض الإنجليز يعرف عن حضارة وتاريخ وآثار وعظمة مصر، أكثر مما نعرف نحن المصريين عنها. ولاحظت أن الإنجليزي يثق في ذكاء الطبيب المصرى وكفاءته، ولا يتعامل معه بتعالى أو ينظر إليه نظرة دونية مثلما كان يتعامل مع بعض الجنسيات الأخري. وكثيرا ماسمعت منهم كلمات الانبهار بمصر وولعهم بالآثار المصرية.
رابعًا: الجنسيات الأخرى
ميزة المجتمع الإنجليزي أنه مجتمع منفتح ومتسامح ومتعدد الثقافات (Cosmopolitan) ويعيش فيه الجميع في إطار يحكمه العدل والمساواة وقوة القانون. وقد قابلت مواطنين من جميع جنسيات العالم، خاصة من الهند وباكستان وبنجلادش، وقد لاحظت التشابه الكبير بين طريقة تفكير المصريين، وطريقة تفكير مواطنى هذه البلدان الثلاثة، ربما لتشابه الظروف الاجتماعية وطرق التعليم.
وبصفة عامة كانت فكرتهم عن مصر أنه بلد الحضارة والثقافة والتاريخ الطويل. وأتذكر بعد حادثة مقتل السياح الأجانب في الأقصر سنة ١٩٩٧، أن قال لى زميل هندي:
«من قتل السياح في الأقصر لايمكن أن يكون مصريًا، فالمصرى لايقتل الأجانب بل يحبهم ويحترمهم، هؤلاء دواخل على الشعب المصري».
وخلاصة القول، إن مصر بلد عظيم وله كبير الأثر في عقول ووجدان كل من قابلته من الجنسيات الأخري، وأن ذلك يفرض علينا أن نتعامل بثقة واحترام ومصداقية مع الآخر، وأن يكون سلوكنا متحضرًا بقدر تحضر بلدنا الذى سبق كل بلدان العالم في الحضارة والرقى والإنسانية.