لم تعد المدينة بعد ذلك اليوم كما كانت، أصبحت مدينة للأشباح، أُغلِقت محال تجارية كثيرة، ومثل اللصوص يتجول البشر فيها، تلتفت أعينهم يمينًا ويسارًا، وللخلف قبل الأمام، أصبحت رائحة الدماء في كل مكان، والخوف يسكن المنازل، لم يعد هناك شكاوى من أصوات الأطفال المزعجة، هرب كبار العائلتين خوفًا من الثأر، فكلاهما يريد اقتناص الرأس الأكبر في العائلة، كيف لا يهربون وكلتا العائلتين بهما لواءات شرطة ووزير سابق، وأعضاء بمجلس النواب؟!
وسط الحشد كانت هناك امرأه تحاول جاهدةً أن تخبئ دموعها منهم، يجب ألا
تضعف أمامهم، بالأمس كانت دموعها تسيل كالمطر، ولكن لم يعد مسموحًا لها بذلك، واصلت
الحديث عن طفلها الذي لم يتجاوز السادسة عشر من عمره، وراح ضحية لمعركة لا ناقة له
فيها ولا جمل: كان يملأ البيت بابتسامته، قلبي كان يحترق في الليلة ألف مرة، أردت الثأر
له بكل ما أوتيت من قوة، ولكن تذكرت أنني لا يمكنني تحمل المزيد من الخسائر، لديّ زوجي
وطفلي الآخر لا أريد خسارتهما، لديّ حياة يجب أن أحافظ عليها، فالدماء لا توّلِد سوى
دماء، والثأر لن ينتهي هكذا.
أعادتني كلمات هذه المرأة القوية – قوية لأنه لم يحدث أن تنازلت امرأه
في الصعيد عن ثأرٍ لها - ٨ سنوات للوراء، عندما وقعت هذه الفاجعة في النصف الثاني من
عام ٢٠١١، بإحدى محافظات الصعيد، لم أكن أتخيل أنه من الطبيعي أن يموت ١٢ شخصًا بسبب
"رش المياه" أو "خناقة طفلين"، ولكن عرفت فيما بعد، أن هناك
"حِمارًا" أكل من زرع غير زرع صاحبه، فقُتِلَ صاحبه ثم قُتِل من قتَل صاحبه،
وأصيب ٨ آخرون، وذلك بسبب "حِمار" لم يميز من أين يأكل!
"مُعظم النار من مستصغر الشررِ" هكذا قالوا، فكان
رش المياه سببًا في مقتل ١٢ روحًا، بالإضافة إلى من أُصيبَ بإعاقة دائمة.. لم يكن في
المدينة وقتها ما يُنذِر بوقوع كارثة، كان كل شيء طبيعيًا إلى أن خرجت الرصاصة الأولى،
لتتحول بعدها المدينة التجارية التي تخدم قرابة مليون مواطن إلي "ساحة حرب"،
الأسلحة تملأ الشوارع، أطفال يتصدرون المشهد، ورجال يرفعون "الجرينوف" فوق
المنازل، لا أحد يمر ولو صدفة، الكل يراقب من بعيد، لم يصرُخ أحد، دفن رجال العائلة
ضحيتهم، ولم يقيموا له سرادق عزاء، وهو أمرُ يعلم الجميع عواقبه، ألقت الشرطة القبض
علي المتهم، وحاصرت المدينة.
لم تمر سوى أيام قلائل.. اختار أهل الضحية رجلٌ له شأن من العائلة الأخرى
وقاموا بالقصاص، أسقطوه أرضًا أمام المعهد الديني، وأُصيبَ نجله إصابة بالغة، بعد إطلاق
وابلٍ من الرُصاص لم يتوقف، وفروا هاربين.
شيَّع أهل الضحية الثانية فقيدهم، لم يكن مشهد الدفن سوى مشهد لمدينة
يحاول محاربون غرباء احتلالها، فوقف الجميع يحملون أسلحتهم الخفيفة والثقيلة للدفاع
عنها، واحتلوا جميع أركان المقابر أو كما نسميها في الصعيد "الجبانة"، وقفوا
متأهبين للثأر، وليس لرجال الشرطة الحاضرين في الأمر من شيء، فقط يحاولون القول
"نحن هنا".
يومًا يتبعه آخر.. يزداد عدد القتلى، وتستقبل الأرض ضيفًا جديدًا، ويغطي
أزيز الرصاص على كل شيء، الشرطة تلقي القبض علي أكبر عدد ممكن لتُرهب طرفي الخصومة،
تجتمع لجان المصالحة، ولكن الأهل هناك كما هم لم يتغيروا بعد، درسوا بالخارج، تقلدوا
أعلى المناصب، أصبحوا أصحاب سلطة ونفوذ، ولكن "من شب علي شيء شاب عليه"،
لم يتغير الفكر بعد، الثأر هو الثأر، والعار يتبع الجميع إذا تخاذلوا.
في نهاية ٢٠١٥ كانت البُشرى بعد إتمام الصُلح بين العائلتين، وعلى الرغم
مِن أن مَن ماتوا لا يستحقون ذلك لأنهم لم يقترفوا ذنبًا سوى أنهم "أبناء تلك
البقُعة من الأرض"، وكانت هذه المرأة القوية سببًا رئيسيًا في الصُلح بعد إطلاقها
مبادرة "صعيد بلا ثأر".
لم تكن هذه الحادثة هي الأولى ولن تكون الأخيرة، إلا إذا زادت الرقابة
الأمنية في الصعيد، وبدون مبالغة فإن السلاح ينتشر بصورة تنذر بالخطر، وعدة أسباب وراء
ذلك، أهمها دخول السلاح في فترة الانفلات الأمني بعد ثورة يناير، وخلال أحداث العنف
التي شهدتها ليبيا، وهو ما مكّن الجميع من تهريب السلاح آنذاك، وعلى الرغم من الجهود
المبذولة من قوات الأمن لفرض سيطرتها، إلا أن الأمر يحتاج إلي تضافر جميع مؤسسات الدولة،
فالأزمة الحقيقية ليست في حمل السلاح، ولكنها تكمن في الجهل والفقر والقِبلية، ومن
المعروف أنه كلما ازدادت نسبة الفقر والجهل، تبعها ازدياد في ارتفاع معدلات الجريمة،
وعلي الرغم من أن الثأر ليس جريمة مُنظمة، إلا أنه أخطر من ذلك بكثير، لأنه مبني على
ثقافة متوارثة وعادات وتقاليد، سيتم توريثها للأجيال القادمة، التي ستقتِل وتُقتَل
دون أن تعرف لماذا!
في دراسة من سجلات الشرطة بصعيد مصر، وصلت إحصائية ضحايا حوادث الثأر
إلي نفس عدد ضحايا حوادث الطرق، وعلي مدار السنوات العشر الأخيرة وقع ما يزيد عن
٢٠٠ حادثة ثأر مُسجلة، بينما تم عقد حوالي ١٠٠ جلسة صلح علي مدار الثلاث سنوات الماضية،
ذلك مقابل وفاة 28 شخصًا من قرية واحدة بمحافظة أسوان في خلال أيامٍ قلائل وليس سنوات،
وإحراق حوالي 150 منزلًا، والقبض علي 163 وتوجيه أحكام بالإعدام والسجن المشدد لـ
63 منهم - تم تبرئتهم مؤخرًا -، وهي القضية المعروفة إعلاميًا بـ"مجزرة أسوان"،
التي وقعت بسبب احتكاك شباب عائلتين ببعضهما أمام المدرسة! ولم تنتهي إلا بعد مفاوضات
مطولة قادها رئيس الوزراء وشيخ الأزهر.
لن تجد ما حييت قلوبًا طيبة مثل قلوب أهل الجنوب، هؤلاء الذين تركت الشمس
بصمتها على وجوههم السمراء، وفيما حدث خلال ثورة يناير ألف دليل، رغم انتشار السلاح،
لم يجرؤ أحد على تخريب منشأة، أو اختراق قسم شرطة، يعرفون ما عليهم، ولكن لا يحصلون
علي ما لهم، وإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الأخيرة عن الفقر في
الصعيد تؤكد ذلك.
"الدم لا يُغسل بالدم ولكن بالماء" هذا هو ما نريد يا معشر "الصعايدة"، وأخيرًا احفظوا حياة أبنائكم إن كنتم لحياتكم غير حافظين، وأقول لأهلي في الجنوب "حيث جرت الدماء لا تطرح شجرة النسيان".