يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراح علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات.. استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا في أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما كانت حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا – دائمًا – كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عامًا من الأخلاق...
الواقع – الآن – في عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من انسانيته.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدى التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
....................................................................................
هزيمة عسكر السلطان في قونية تكسر أنف الباب العالى
أتم الجيش المصرى استعداده بالتدريب وتحديث معداته وصيانة مدافعه ومراجعة خططه وتكتيكاته، حتى اطمأن والى مصر من النصر المؤكد، خاصة عندما تأكدت لديه عبر عيونه في دهاليز السياسة الأوربية وأروقة الدبلوماسية أن أوروبا ستقف موقف المشاهد حتى تتضح أي من القوتين المتصادمتين، ستحقق طموحات الممالك والقيصريات الاستعمارية.
ومن جانب آخر اندفع رشيد باشا من بين سهول استانبول في اتجاه «أك شهر» واتخذ من «قديم خان» منطقة تمركز لقواته لبدء العمليات الحربية من منها، وهى على بعد تسع ساعات من قونية حيث ميدان المعركة المرتقبة مع المصريين، وأرسل خورشيد باشا للسلطان بأن عدد قواته بلغ التسين ألفا في حين إن عدد قوات الجيش المصرى لا يتجاوز الخمس والعشرين ألفا، وزاد سلطانه من الادعاء بيتا حين كتب له إن طلائع جيشه بقيادة سليمان باشا على رأس عشرين ألفا من العسكر قد هزمت الوحدات المتقدمة من الجيش المصرى، وأعلنت تركيا أفراحها بهذا النصر الزائف، وتشجع السلطان وأصدر أمره السلطانى بالهجوم على الجيش المصرى مخالفا كل عهوده من الدبلوماسيين الوسطاء بينه وبين والى مصر، ومؤكدا نجاح السياسة المصرية في توقعاتها وادراتها للأزمة حيث أظهرت للعالم تحول الاعتداء التركى من مجرد الوايا إلى الفعل، مما يعطى الحق كاملا للموقف المصرى دوليا في الدفاع عن حقوقه.
أما بالنسبة لأكاذيب رشيد باشا بالنصر – المدعى – على مقدمات الجيش المصرى فالحقيقة أن قائد الجيش المصرى أرسل قوة على رأسها دبوس باشا لاحتلال «قيصرية» وصد هجوم سليمان باشا الذى لم يتقدم خطوة أمام القوة المصرية!.
ولنا هنا وقفة لن يتخطاها التاريخ، وهى عند وصول رشيد باشا إلى «يورغان لاديك» كتب إلى صديقه القديم إبراهيم باشا قائد الجيش المصرى في قونية وكانا زملاء في إسكات ثورة المورة 1827 وكلاهما يعلمان الكثير عن بعضهما البعض، ويعلم رشيد جيدا أنه لولا القوة المصرية في البحر المتوسط لما كانت الغلبة لتركيا –حينها-، ويعلم إمكانيات هذا الجيش الذى لن ينتصر عليه برسائل الادعاء بالنصر الزائف التى يرسلها لبابه العالى، وهنا كتب رشيد لإبراهيم: «أخى العزيز إبراهيم باشا: إنى قد تلقيت من مولانا السلطان الأمر بمهاجمة جيشك وطرده من البلاد التى يحتلها الآن، فأنا أسألك باسم الله الذى نعبده جميعا، وباسم ما بيننا من الصداقة والإخاء، إلا كففت عن إراقة دماء المسلمين، فإنك تعلم إن تبعة القتال تقع بعد الآن عليك، فعليك أن تضع حدا لهذه الحرب بانسحابك مع جيشك من بلاد احتلتها بدون وجه من وجوه الحق».
وكأن بلاد الشام هى حق مستباح لعسكر السلطان العثمانى وتحرير أهلها من استعباد هؤلاء العسكر الفسدة يعد احتلال!.
وما إن وصل الخطاب لإبراهيم المتشوق للنصر والمعتمد بعد الله على الجيش المصرى، حتى بادر بالرد إلى رشيد: «أخى وعزيزى رشيد باشا: لا أقدر أن أصف اليك مقدار أسفى لاضطرارى إلى منازلة رجل أحبه وأجله، وقد تسنى لى أن أقدره حق قدره، ولكن إذا كان صديقى وزميلى رشيد باشا قد تلقى الأوامر بمهاجمتى من سيده ومولاه، فإن إبراهيم قد تلقى الأوامر ذاتها من سيده وأبيه، فهو ليس أقل منه رغبة في حقن دماء المسلمين».
ومن الطبيعى ألا يُرضى هذا الكتاب غرور قائد يقف خلفه ستون ألفا من عسكر السلطان يحملون في آذانهم رجاء السلطان لهم بالنصر على جيش مصر مقابل أن يجازيهم بما لم يصل إليه خيالهم الجامح، وكان هذا الوعد السلطانى هو الآخر يستجدى بعضا من حفظ ماء الوجه التركى أمام تكرار انتصارات الجيش المصرى وضمه لولايات الباب العالى للإدارة المصرية وهروب قادة الجيوش التركية وأسر قواتهم مما سبب له الحرج البالغ أمام أوروبا، فبادر رشيد بالزحف بجيشه إلى سهول قونية مع بدايات نهار يوم 21 ديسمبر، ولأنه يجارب زميله الذى خَبِره جيدًا وتدرب معه وحارب معه، فقد كشف هذا الزميل - الذى أصبح ندًا- مخطط رشيد الذى يبرع فيه وهو الانقضاض كالصقر مرة واحدة على خصمه حتى يفقده التوازن ويبدأ في إعمال الهزيمة في خصمه، وعندما تيقن إبراهيم باشا من عدم تغيير رشيد لخططه المعهوده والتى اتضحت له من خلال عيونه بين صفوف العدو، وتأكدت من تشكيل المعركة الذى اتخذه رشيد أثناء تحركه بجيش يصعب إخفاء نواياه من خلال تحركاته، وهنا أمر القائد إبراهيم قواده بالانقسام إلى ثلاثة تشكيلات كبرى الأولى في الميمنة والثالثة في الميسرة وكلاهما متخفيان بين تلال قونية وأشجارها، أما هو على رأس تشكيل المنتصف الذى تظاهر بأنه هو القوة الوحيدة وتظاهر أفراده بعلامات الرعب من جيش رشيد وارتدت للخلف لتجبر جيش رشيد - الطامع في النصر - على ملاحقتها، وتوهم رشيد أنه يحقق نصرا مدويًا لسلطان العسكر للمرة الأولى على الجيش المصرى فانهمر كالسيل المراهق خلف فلول تشكيل الوسط حتى وقع فريسة سهلة بين مطرقة تشكيل الميمنة وسندان تشكيل الميسرة، وعاد تشكيل الوسط يفعل بسيفه وباروده ما يشاء في عسكر السلطان، وتبخر فرسانه العشرة آلاف مع غروب شمس نفس يوم التحرك 21 ديسمبر.
وليس أدق في الوصف لسير المعركة أفضل مما قاله إدوارد جوين: «كان الأتراك ثلاثة أضعاف الجيش المصرى إلا أنهم كانوا أضعف في ميدان القتال».
وسنمر في العدد القادم إن شاء الله على مشاهد معركة قونية التى انكسر فيها أنف عسكر الباب العالى، وتبددت أوهام الباب العالى نفسه!.