في آخر يوم في العام، نقف على أبواب الذاكرة، ندق أبواب قلوبنا، فتفتح لنا وجوه نعرفها، نحييها فتحيينا، نبتسم لها فترد الابتسامة، فنجلس بهدوء، نتأمل حركتها، في عام انقضى، كفيلم صامت على شاشة مفصلية تمثل نقطة النهاية والبداية في آن واحد. لحظة الحساب التى نزن فيها قلوبنا، وعامنا الذى انقضى بريشة ماعت إلهة الحق والعدل والنظام في الكون، السيدة تعلو رأسها ريشة، وتمسك في إحدى يديها وتمسك في يدها مفتاح الحياة (عنخ) وتمسك اليد الأخرى صولجان الحكم، تدور دراما العام بكامل هيأتها من سرد القصص، التى لا تخلو أحداثها من صراعات، وأحلام، ومشاعر، وذروة. لا تخلو من عقد وحلول، احتباس أنفاس، وهمس شفاه، ودغدغة عواطف. فنرى أشخاصا لا بد أن نتخفف منهم. نرى أشخاصا فرشنا لهم أرواحنا وبذلنا معهم من الياسمين ما يعطر أعوامهم وما يظلل أمنياتهم لتنمو، وتضحك وتتمطى، كقطة كسول، تتمرغ في شمس أرواحنا، فخربشتنا بأظافرها وخنقت ما استطاعت من العطر. أشخاص لا بد أن يلملموا أوراقهم ليرحلوا عنا، وينزووا بعيدا بعيدا لا نتذكرهم بخير ولا بشر ولا بحقد أو ندم رغم الدخان الذى ما زال يخنق أنفاسنا. دخان النيران التى نفخوا فيها طوال العام لا لشىء إلا ليقلقوا أرواحنا دونما أسباب منطقية دونما تبريرات دونما أثر لأيام تجاورت فيها الخطوات وأطباق الطعام والثرثرات. فمثلهم لا يستحقون أكثر مما استهلكوا من حياتنا وعلينا أن نلتفت لما تبقى لنا من بهجة وأيام قادمة نستحق أن نعيشها سعداء لأننا نستحق السعادة. ونرى أشخاصا أخرى تتأهب للرحيل فنستبقيهم ونعتذر لهم لأننا نسيناهم أو أخذتنا دوامة العمل منهم فأهملناهم. دونما قصد، انشغلنا عنهم، واثقين في سماحة قلوبهم ومرج محبتهم دائم الخضرة والازدهار وحبل مشاعرهم الذى غزلوه على مهل من الورود والمحبة وزهور السنين ما بيننا. مثلهم من أمهاتنا وآبائنا وشقيقاتنا وأشقائنا وأصدقائنا منذ الطفولة الأشخاص الذين اصطفونا ونعرفهم جيدا ونركن إليهم ونتكئ على محبتهم لنا كوثيقة لا تنفض شراكتها إلا بانقضاء الأجل. لهولاء نهرع ونقف خلف باب القلب لئلا يخرجوا منه أبدا لأننا ببساطة نحيا بهم، ولأنهم ببساطة من يطرقون طبول الأمل فيه فنسمع نبضنا ونطمئن للحياة. ومنهم أشخاص رحلوا بالفعل إلى عالم آخر وبعد آخر ملائكي، شفيف وصاف صفو أرواحهم التى تطل علينا في الأزمات وتزورنا في نومنا دائما لتشاركنا الفرحة أو تخفف عنا ألما لا يعرف سره إلا نحن وهم. أشخاص رغم يقيننا برحيلهم إلا أننا ننكره بوعى تام ونستبقيهم أحياء تطاول محبتهم أشجار الروح ونحييهم أكثر وأكثر حتى أننا ننغرس بجوارهم لا نرتكن إليهم طوال الوقت فقط، لأنهم ببساطة مهربنا من الهجير ومرفأنا في حياة تتلاطم فيها الأيام حين تهب العواصف وما أكثرها. ومنها أشخاص دفعت بهم الأيام في حياتنا بصدفة خالصة خالصة وقت أزمة كنا لا نتوقع لها حلولا فظهروا كملائكة في صورة بشرية تنفرج على أيديهم الكرب، وينسحب أمامهم اليأس كذئب مذعور رأى شعلة نار في أيدهم فجأة في الظلام. مثل هؤلاء كنوز وهبات وجوائز منحهم الله لنا وقت عجزنا ووقوفنا منهكين على حافة الجنون جراء المظالم أو الموت ليعيدوا لنا الإيمان بالخير والحق والجمال على الأرض، لكل منا أرضه وعالمه وأحلامه وسماؤه. بمثلهم نتشبث ونضع أسماءهم في زجاجات من نور لا ينطفئون أبدا ونضع أطيافهم في أرفف مخملية، كيلا ينجرحوا أبدا ونصحبهم دائما معنا في الحياة. في آخر يوم من العام ننتقى من لا تستقيم حياتنا بدونهم ونقول لهم شكرا على وجودكم في حياتنا، شكرا على الدفء والدعم والحب والصداقة، الحماية والجمال الذى يمنحونه إيانا ونتشاركه معا لنتقاسم السعادة والنجاح والمحبة التى كلما أخذنا منها تكبر. كل عام ونحن ممتنون لأخواتنا وإخوتنا، لمعلمينا وزملاء العمل، لجيراننا في البيت والشارع، لبنات خالاتنا وأخوالنا وأعمامنا، «إخوة وأخوات» خبأتهم الحياة لنا- منهم من رأى شارة المحبة ومنهم لم لم ينتبه-. ممتنون لابتسامة الغرباء التلقائية البريئة في المصاعد والمحلات التجارية والباصات والمترو. لأزواجنا وزوجاتنا، لأبنائنا، لأصدقائنا، لمؤلف كتاب قرأنا منه عبارات تمثلنا، لموظف لا يعرفنا تعامل بروح القانون لا بنصوصه ليخفف عنا ألما لم يكن باستطاعتنا الهروب منه. ممتنون أيضا لابتسامة بائع المناديل في وجوهنا في الصباح، لعامل النظافة الذى لولاه لما استطعنا الحياة حرفيا. لآبائنا وأمهاتنا – بيننا أو في قبورهم – أحياء في قلوبنا من قبل ومن بعد وإلى الأبد. ممتنون للأحداث القاسية التى عبرت فوقنا فلم تدهسنا لمحاولات الفرقة التى وحدتنا، لمعدننا الطيب ومصريتنا الخالصة. كل عام ونحن نمشى ونعبر ونتقدم ونضىء وتتباهى بنا الدول وهى تشير إلينا نحن أبناء مصر.
آراء حرة
محبة وامتنان في آخر يوم من العام
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق