أنتِ فاتنةٌ
وأنا هرمٌ
أتأملُ في صفحةِ السين وجهي
مبتسمًا دامعًا
.. .. ..
أنتِ فاتنةٌ
تبحثين عن الحبِّ، لكنني
أقتفي أثرًا ضائعًا
كان لا بدَّ أن نلتقي في صباي
إذنْ
لعشقتُكِ عشقَ الجنون
وكنا رحلنا معًا
لا أعرف لماذا أتذكر دائما تلك الأبيات التى أنشدها الشاعر المصرى الكبير أحمد عبد المعطى حجازى، ليعبر بها آنذاك عن عجزه في أن يمارس الحياة بشكل طبيعى، يحب ويتحب، ويعيش حياة هانئة فى منفاه الاختيارى، باريس، وهو ما زال محملا بآثار وإحباطات فترة ما بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر.
هكذا كان حالنا عندما شددنا الرحال إلى قاهرة المعز منذ ما يقرب من ثلث قرن أو يزيد، بداية الثمانينيات من القرن المنصرم.
كانت براءتنا مخبأة فى كتاب الحساب، وكان الحلم يسبقنا أشعث الشعر والروح، يلهث من حيرة ونحن وراء لهاثه نبكي ونضحك مختلطين بدفء الذكريات وبريق الأمنيات.
تلك كانت قَسمات روحنا عندما حطت رحالنا فى شوارع المحروسة، وجلسنا على مقاهيها نحتسي المعرفة، لا الشيشة، فقد كانت المقاهي أيامنا، "ريش وزهرة البستان"، أماكن يجلس فيها الكُتاب والمفكرون والمبدعون كي يتبادلوا الأفكار، ويقرضوا الشعر، وينقدوا القصة القصيرة والرواية، ويقدموا للوطن وجوها تحمل همه وطموحاته وتجربته.
عرفنا على تلك المقاهي الناقد الشيوعى إبراهيم فتحي، والمترجم والمؤرخ التروتسكى بشير السباعى، والروائى الفذ إبراهيم أصلان وجمال الغيطانى وإبراهيم عبدالمجيد والمخزنجى، وشعراء جيل السبعينيات حلمى سالم ورفعت سلام وعشرات وعشرات من المبدعين والمستنيرين.
كنا أبناء اليسار ندعى، حينما دخلت أنا ورفاق الرحلة قادمين من الجنوب حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، ذلك الكيان العريق آنذاك لنلتقي بالعملاق الراحل رفعت السعيد، كان الرجل وقتها حديث اليسار برمته من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من حزب العمال إلى التروتسكيين، ما بين كاره للرجل ولأسلوبه وأفكاره كراهية تصل إلى حد الاتهام بالخيانة والعمالة، ونشهد الله أنه كان من أشد المخلصين للوطن والفكرة، وما بين عاشق له يصل به إلى مرحلة التقديس.
وكنا نحن القادمون من الجنوب، لم تلوثهم بعد صراعات العاصمة، بين هذا وذاك؛ نرى الرجل والحزب والتجربة فى حجمهم الطبيعي.
ومضت السنون ولم أعد ذلك الغلام الذى كنته في عامى التاسع عشر..
ومن مدبولي إلى الشروق مرورا بالصديق محمد هاشم فى ميريت ودار المعرفة، ومكتبة دار الهلال.. وفيما بعد سور الأزبكية.. تجلت معارفنا ونحتنا خطواتنا الأولى نحو الأدب والتاريخ.
عرفنا الجبرتى، وابن إياس، والرافعي، وصلاح عيسى، وعبدالعظيم رمضان، وطارق البشرى، ورفعت السعيد.
وعرفنا معهم أن التاريخ الذي تعلمناه فى مدارسنا القديمة لم يحمل فى طياته كل الحقيقة، وأن هناك الكثير من وجهات النظر والمواقف التى تعيد تفسير كل الظواهر والأحداث التى تعرض لها، ولحسن حظنا أننا تداركنا ذلك فى صبانا قبل أن تصعب إعادة تكويننا.
تعلمنا وتربينا على يد جيلٍ لم يكن يعرف المساومة عندما تتعلق الأمور بالحقيقة.. إسماعيل صبري عبدالله، وفؤاد مرسى، وإبراهيم سعد الدين، وميلاد حنا.. وقبلهم كنا قد نهلنا من طه حسين، وعلي عبدالرازق، ولويس عوض.. تلك السلسلة من اللؤلؤ المعقود الذى لم يزل يزين صدر المحروسة.
وبين شوارع وسط البلد وممراتها سارت مراكبنا لترسو بنا عند ظاهرة جديدة ألمّت بالوطن، وآلمته.
فقد كان ظهور الجماعات الإسلامية بطوائفها وتنظيماتها المختلفة علامة فارقة فى تعديل بوصلتنا من دراسة اليسار إلى دراسة الفكر الإسلامي ومنتجاته من تلك الجماعات.
كنت وقتها قد جاوزت الثلاثين بقليل، وشرعت فى كتابة أول دراسة طويلة لى صدرت فى كتاب بعد ذلك عن دار ميريت للنشر تحت عنوان: «المخاطرة.. فى صفقة الحكومة وجماعات العنف» صمم غلافه المبدع أحمد اللباد.
كانت تلك الدراسة نتاج خمسة أعوام من قراءة أفكار تلك الجماعات، ومقارنتها بالفكر الإسلامى فى مرحلة الازدهار عند ابن رشد ومدرسته، وما سار على نهجهم فى القرنين التاسع عشر والعشرين، سلسلة طويلة من الأسماء اللامعة تبدأ عند عبدالغني النابلسي، ولا تنتهي عند محمود شلتوت، مرورا بالشيخ حسن العطار، والإمام محمد عبده، والشيخ مصطفى عبدالرازق، والشيخ علي عبدالرازق، وأمين الخولي، وعبدالمتعال الصعيدي، ومحمود أبورية.
رصدت فى هذا الكتاب طريقة تعامل الدولة مع تلك الجماعات القائمة على عقد الصفقات معهم، وحذرت من تلك الطريقة التى أوصلتهم فى النهاية إلى الحكم عقب أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١.
وعندما أعلنت اللجنة العليا للانتخابات فى يونيو ٢٠١٢ فوز مرشح الإخوان بالرئاسة أظلمت الدنيا فى وجهي، وأحسست بنفس إحساس أحمد عبدالمعطي حجازي بعد رحيل عبدالناصر عندما وقف يخاطبه قائلا:
هل خدعت بملكك.. حتى حسبتك صاحبي المنتظر..
أم خدعت بأغنيتي وانتظرت الذي وعدتك به فلم تنتصر..
أم خُدعنا معًا بسراب الزمان الجميل..
حينها جاءنى صوت الأصدقاء على الهاتف يتساءلون فى هلع: ما العمل؟.. كنت واثقا، رغم يأسي وحزني، أننا سننتصر.. وأن هذا الموقف، كآلاف المواقف غيره مرت بتاريخ هذا البلد، سوف يمر وسوف نعبره بكل ثقة، قلت لهم: لا شيء.. سرعان ما سيستعيد هذا الشعب وعيه وعافيته ويلفظ ذلك الحمل؛ لأنه جاء خارج الرحم.. رحم تلك الأم الرؤوم.. مصر.. وقد كان.. فسرعان ما دبت الروح في الجسد المريض، واستعاد الشعب المصرى وعيه وعافيته وكانت أولى خطواته، حصار الاتحادية فى ديسمبر ٢٠١٢، تلك الأيام العصيبة التى خلفت فى قلوبنا حزنا دفينا على فراق رفاق ما زالت صورهم تتراءى لنا كلما حلت ذكرى تلك الأيام.
وتمضي الأيام ويسري الدم فى العروق ليحل محل الخوف، وتنبت بذرة الثورة عفية عصية على الكسر، وتترعرع أغصانها رويدا رويدا حتى استوت ثمارها ليقطفها ذلك الشعب النبيل، محاطا بجيشه وشرطته فى ٣٠ يونيو من عام ٢٠١٣.
منذ ذلك التاريخ دخلت مصر ودخلنا معها مضمار التحدي.. تحدي المؤامرات والمتآمرين.. تحدي الإرهاب وداعميه.. تحدي الأوضاع الاقتصادية الصعبة ومروجي الفتن والشائعات.. تحدي التنمية والتغيير والسير بسرعة الضوء لكي ننجز شيئا نفخر به أمام الأجيال القادمة.. لقد تحمل هذا الشعب وما زال الكثير، وأظن أن القيادة السياسية تعرف ذلك وتُقدِّره وتضعه أمام أعينها وهى ترسم مستقبلا جديدا للبلاد فى ٢٠٢٠.
تضع تحدي حرية الصحافة والإعلام نصب أعينها.
تضع تحدي الإصلاح السياسي والاجتماعي نصب أعينها.
تضع تحدي إعادة بناء الإنسان المصري نصب أعينها.
تضع تحدي استعادة الروح المصرية الأصيلة نصب أعينها.
تضع تحدي إعادة بناء الصورة الحضارية لبلادنا أمام العالم نصب أعينها.
إن القادم من الأيام سوف يحمل فى طياته الكثير الذي سوف يجعل الإنسان المصري يفخر بنفسه ووطنه ويشعر أن تضحياته لم تذهب سُدًى، وأن هناك ما كان يستحقها بالفعل.
القادم من الأيام سوف يحمل كل ما هو جميل وطيب لهذا الشعب الصبور.
أثق فى ذلك وأشعر بمقدماته وبشائره.. بشائر الفرح والخير والعزة والنصر.. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. ويوفّى الصابرون أجورهم..
فكُلُّ عامٍ وأنتم بخير..