الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

صفحات بيضاء وأقلام ملوثة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كثيرًا ما نتبارى جدلًا للحديث عن أزمة الصحافة في مصر، ننتقد ما آل إليها من مستوى أبعد القارئ عنها، نتفوق على أنفسنا كذبًا حينما ندّعي أننا نملك حلولًا للنهوض بها، نزعم أن ما بها ليس بأيدينا، لا نجد غضاضة في أن نلقي باللوم على كل شيء إلا أنفسنا، نقول: إننا نعيش عصرًا لا مكان فيه للصحافة الورقية، وأن عالم الإنترنت والديجيتال قضى على مهنة تحدت الزمن لأكثر من أربعة قرون، فقد بدأت بـ"الوريقات الإخبارية" طيلة حرب الثلاثين عام "1618 – 1648" ميلادية.
المشهد الأول
(نهار داخلي – أحد مباني حي المهندسين – صباح الثاني من يناير عام 2006).. اكتظت تلك الصحيفة الأسبوعية بمحرريها، فاليوم الاجتماع الأسبوعي، داخل صالة التحرير، جلس كل صحفي خلف مكتبه يُعد ورقة أفكاره، عله يفوز بثقة رئيسه فيفرد له صفحة كاملة، أو أن ينال حظه العثر من عنوان رئيسي يزين صدر صفحتها الأولى، قطع انهماكهم دخول رجل ضخم الجثة، قصر القامة أصلع الرأس ذو كرش كاد يمزق قميصه الرمادي، فأسرع البعض لاستقباله استقبال الفاتحين، في حين تفرغ البعض الآخر لمدحه، قائلين، ما أجمل ما كتبت أنامله.
اتسعت ابتسامة رئيس التحرير الخبيثة، بينما انتفخت أوداجه، كطاووس مختال جلس علي كرسي القيادة، بانتشاء منتصر قال متلعثمًا كأنه طفل صغير، تلك مجرد كلمات بسيطة كتبتها، انفرد بنفسي داخل مكتبي هذا، وعلي أنغام السيدة أم كلثوم احتسي قهوتي، وبين أنفاس سيجارتي تخرج تلك الكلمات الرائعة، ثم اعتدل موجهًا حديثه لكل من يجلس أمامه، هيا أخبروني بروائعكم علها تُحظى باعجابنا، فأسرع الجميع بطرح ما لدية، أملين أن تحوز أفكارهم موافقة.

أظهر رئيس التحرير تململًا، فقد مرت الساعة دون أن يسمع ما يرضيه، حتي رأها بطرف عينيه قادمة، فتاة صغيرة سافرة، كذب حينما زعمت إنها محررة، ترتدي زيًا لا يليق بمجتمع الكاتبات، تتفوه ألفاظًا لا تنسجم مع عالم المثقفين، وإن كانت تمتلك صفات لا تروق إلا لذلك الأصلع البدين، فأمر الجالس بجواره لينهض تاركًا مقعده لها، وقد عاد لمزاجه البائس رونقه، نسي أنه يعقد مع الجميع إجتماعًا، فراح يعدد مفاتن حسنها، ناولته أوراق لآخر ما كتبت، فالتقطها قائلًا ما أبدعه.
"هيا لينصرف الجميع إلي عمله".. قالها الرجل لينهي الإجتماع، ثم التفت إلي مساعده يناوله أوراق تلك الفتاة قائلًا بحماس مُفتعل، احجز لهذا الملف صفحة كاملة، ولا تنسى أن تشير إليه في الصفحة الأولي، ثم أشار إلي الفتاة أن تتبعه قائلًا بصوت هامس، هيا إلي مكتبي لتشرحي لي أمر ذاك الملف، ليقضي على آمال من لو كان إلتفت إليهم لصُعق من هول ما سيرى، ولتفوز بحق ما كانت لتنوله لولا وجود ذلك المسخ في بلاطها.
المشهد الثاني:
(نهار داخلي –حي الدقي – صيف عام 2004).. ذات يوم صيفي حار، وصل إلي القاهرة، فتي يبدو بسيطًا، ولكنه يمتلك شيئا من الطموح، لم يكن ذكيًا، ولكنه يدرك ما يريد، طيلة أيامه الأولى في تلك الصحيفة لم يقل أي كلمة، ظل يراقب الجميع طيلة يوم عمله، ليفهم طبائعهم، اعتمد كثيرًا على شقيقه الذي كان يرأس منصبًا تنفيذيًا بتلك الصحيفة المستقلة، ما جعله يتعامل مع زملائه وكأنه شريك في كل ما يكتبون، فرغم أنه لم يقدم أي شيء ذا قيمة طيلة ثلاثة أشهر كاملة، إلا أن اسمه لم ينقطع يومًا عن صفحات تلك الصحيفة.
مرت الأيام وهذا الفتى لا يتحدث مطلقًا، وإذا تحدث لا تفهم ما يقول، لم يستطع أبدًا تكوين جملة مفيدة، حتى بدأ البعض يسخر منه، هنا قرر شقيقه أن يتدخل بنفسه، عقد اجتماع مع أحد الصحفيين الشباب، أبلغه أن يهتم بشقيقه قليلًا، وأنه أضطر لإحضاره من قريتهم بأحد محافظات الصعيد لأنه لم يجد له عمل، وأنه يدرك جيدًا أن شقيقه لا يجيد أي من فنون العمل الصحفي، ولكنه ماهر في صناعة صداقات، وأنه قادر على تنفيذ كل ما يُطلب منه جيدًا.
سنة ورا سنة، كبر الفتى، تمكن بواسطة شقيقه، وبقدراته الخاصة، والتي ليس لها علاقة بمعايير المهنة، أن يرتقي درجات وظيفية، أقول وظيفية، ليس اعتمادًا على سوابق أعماله، فحتى اليوم، ورغم مرور أكثر من عشرة سنوات، لا تجد له قضية واحدة يمكن أن يتذكر البعض اسمه بها، لم يتمكن من انتزاع جائزة صحفية، أو يتلقى دورة تدريبية، لا يعرف الفرق بين التحقيق التقريري والتحقيق الاستقصائي، وستتعجبون إذا عرفتم أنه، وبمنتهى السهولة، يتولى منصب رئيس التحرير لإحدى الصحف.
المشهد الثالث
(نهار خارجي – مدينة الكريمات – جنوب الجيزة – شتاء عام 2009).. "شايف العربية اللي هناك دي.. عندي كمان واحدة.. ده غير حتة الأرض اللي اشتريتها في البلد.. والشقة الواسعة اللي في العجوزة.. يا ابني أنت ماسك منجم دهب.. متخسروش".. كلمات صادمة أطلقها الصحفي العجوز، والذي لقبه زملاؤه المتابعون لتلك الوزارة الاقتصادية، بـ"الجنرال"، علي مسامع ذلك الشاب، في محاولة منه لإغرائه، وإثنائه عن استكمال حملته ضد الفساد داخل إحدى هيئات تلك الوزارة.
لم يفهم الشاب في بادئ الأمر، من أين لذلك الجنرال بتلك الثروة، وهو مازال يُصر على أنه جاء من قريته لا يملك حق إيجار شقة عادية، حتى اضطرته الظروف المعيشية لاستئجار غرفة في بدروم أحد العقارات الآيلة للسقوط في مدينة دار السلام، غير أنه أدرك الحقيقة بمجرد أن عرف أن ذلك الجنرال يعمل مستشارًا إعلاميًا لتلك الوزارة الاقتصادية، وفي نفس الوقت يقوم بالتغطية اليومية لنفس الوزارة في صحيفته.
وكأنه سعد باشا زغلول، أو مصطفى بك كامل، أو حتى محمد أفندي أبو سويلم، أو أي من أصحاب تلك الشعارات البائدة، أولئك الذين وارت جثامينهم التراب، وقف الشاب أمام ذلك الجنرال يتحدث عن الأخلاق والمبادئ التي لا تتجزأ، والشعب الذي من حقه أن يعرف الحقيقة، لم يبالِ عجوز المهنة بما يقول الفتي، بل نصحه أن يفعل مثلما فعل منذ سنوات، وأن عليه أن يتخلص من تلك المبادئ الضارة جدًا بالصحة.
ذات يوم، جاءت لذلك الشاب الطموح دعوة لحضور إحدى الفاعليات، سيحضرها ضيف في غاية الأهمية، وداخل قاعة الاجتماعات جلس نفس الجنرال بجواره، يذكره بأمر ذلك العرض، حاملًا معه جائزة لا تأتي إلا لمُستغلي الفرص، فقد قرر مسئول الوزارة الكريم أن يؤسس صحيفة إخبارية، وأنه لم يجد أمهر من ذلك الشاب ليتولى أمرها، على بُعد خطوات جلس ذلك المسئول، واضعًا ساقًا فوق ساق، يرسم على وجهه ابتسامة صفراء، وكأنه حقق هدفًا طالما حلم به.
لم تنتهِ القصة بعد، مازال هناك الكثير، فصاحبة الجلالة تمتلئ بمثل تلك الأساطير، البعض منهم وصولي متسلق، فاقدًا للمهنية، والبعض الآخر غلبه الطموح، فباع من أجله القضية، قد لا يتسع المجال لعرض مثل تلك الحكايا، ولكن البعض منها يقف شاهدًا على تدهور مهنة كان يمكن لها أن تكون سببًا في بناء أمة.
صحافة بلا قراء
في الوقت الذي نزعم فيه بأن الصحافة التقليدية ستنتهي من قريبًا، يثبت لنا الآخرون أن هذا لا يحدث إلا في بلاد الشرق فقط، فالإنترنت طبقًا لرئيس مجلس إدارة شركة جوجل العالمية، إريك شميت، الإنترنت سيختفي قريبًا، وأن اي محتوي مهما بلغت أهميته لن يكون متاحًا، ليس معنى ذلك أن هذا الاختفاء سيعني اندثارًا، فالإنترنت سيكون موجودًا في كل مكان لدرجة أننا لن نشعر بوجوده ويصبح مختفيا عن ناظرنا وسيصبح جزءا من اللا وعي البشري، فحضور الإنترنت الدائم في حياتنا سيتيح لنا حسب إريك شميت التطور نحو عالم أفضل.
تلك الإشكالية يدركها العالم في تعامله مع الصحافة الحديثة، لذا لم يهتم بتلك التكنولوجيا الحديثة وعالم الديجيتال بنفس الكيفية التي يهتم بها في عالم الصحافة الورقية، ويبدو ذلك واضحًا في التقارير السنوية التي تُصدرها الجمعية الدولية للصحافة، والتي ترصد أسواق توزيع الصحافة الورقية في العالم، فجاءت الصين في المركز الأول بتوزيع يومي بلغ 114 مليون نسخة يوميًا، تليها في المركز الثاني الهند بإجمالي توزيع 82 مليون نسخة يوميًا، ثم اليابان بإجمالي توزيع 69.7 مليون نسخة يوميًا، والولايات المتحدة الأمريكية بإجمالي توزيع 58.2 مليون نسخة يوميًا، وفي المركز الخامس دولة ألمانيا بإجمالي توزيع بلغ 24.6 مليون نسخة يوميًا، بخلاف عشرات الملايين من النسخ الديجيتال.
أهم ما يلفت النظر لإحصاءات الجمعية الدولية للصحافة لعام 2017، أن الدول التي تحتل المراكز الأولى تمتلك شبكة عنكبوتية هي الأقوي والأرخص في العالم، ما يعني أن ذلك العالم لم يستطيع عرقلة تقدم الصحافة الورقية، فهناك ما يقرب من 2.7 مليار شخص يشترون الصحف يوميًا، بزيادة 11% عن العام السابق له، أي ما يعادل 36% من سكان كوكب الأرض، بالإضافة إلي وجود ما يقرب من 640 مليون شخص تصلهم اشتراكات يوميًا، ما يعني أن 3.34 مليار شخص تصلهم نسخ ورقية يوميا، أي 44.3% من سكان الأرض، في حين يُطلع 1.3 مليار شخص النسخ الديجيتال يوميًا، بزيادة بلغت 4% فقط، وهو ما يعادل 17% من سكان الأرض، على الجانب الآخر بلغ عدد قراء الصحف من مستخدمي الإنترنت ما يقرب من 3 مليارات شخص حول العالم، أي حوالي 40% فقط.
لذا قد يدهش البعض من وجود 123 صحيفة على مستوى العالم تحقق نسبة توزيع أكثر من 80 مليون نسخة يوميًا، وأن هناك حوالي 840 صحيفة تبيع أكثر من 200 ألف نسخة يوميًا، ونسبة التداول اليومي تحقق انخفاضًا يصل إلى 1%، وذلك يعود لتدهور الصحافة في دول العالم النامي، في حين تحقق في أوروبا الغربية وأمريكا واليابان والصين والهند نسبة زيادة سنوية تتخطى 9%.
أما عن قائمة الصحف اليومية الأكثر مبيعًا بالمليون نسخة، ففي المركز الأول تأتي مجلة "ذا واتش تاور" الأمريكية 55 مليون، ومجلة "برج المراقبة" الأمريكية 45 مليون، ومجلة "Awake" الأمريكية 43.5 مليون، مجلة "إيه.إيه.آر.بي" الأمريكية 23 مليونا، مجلة "لعبة المختبر" الأمريكية 18.1 مليون، و"يوميوري" اليابانية 13.5 مليون، مجلة "اداك موتورفيلت" الألمانية 13 مليون، مجلة "الرابطة" الأمريكية 12.5 مليون، و"اساهي" اليابانية 11.39 مليون، ومجلة "كوستكو كونكشن" الأمريكية 8 ملايين، ومجلة "بترهومز & غاردنز الأمريكية 7.6 مليون، ومجلة "ريدرز دايجست" الأمريكية 6.2 مليون، ومجلة "القراء يهضمون" الأمريكية 6.015 مليون، ومجلة "سبورتس إليستريتد" الهولندية 6 ملايين، ومجلة "تي. في ماجازين" الفرنسية 5.8 مليون، ومجلة ناشيونال جيوغرافيك" الأمريكية 5.62 مليون، ومجلة "الناس" الأمريكية 4.5 مليون، ومجلة "جيم إنفورمر" الأمريكية 4.3 مليون، وصحيفة أمريكا اليوم 4.2 مليون نسخة.