استكمالًا لموضوع مسئولية الدولة في التعليم يجب الإشارة إلى أن البداية الحقيقية لمحنة التعليم عالميًا كانت على يد رئيس الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر وبدأت في إنجلترا ثم انتشرت منها إلى كثير من دول أوروبا وأمريكا وكانت إنجلترا هى الرائدة عالميا في التخلى عن المسئولية الاجتماعية في مجالى الصحة والتعليم بعد أن تولت تاتشر رئاسة الوزراء في العام ١٩٧٩ وحتى العام ١٩٩٠.
وكانت "تاتشر" قد تسلمت الحكم في ظل أزمة مالية وركود اقتصادى رهيب أجبرها على اتخاذ عدد من الإجراءات الرأسمالية القاسية منها تقليل دعم الدولة للتعليم والصحة فضلا عن خصخصة الكثير من شركات القطاع العام منها مصنع السيارات الأشهر في العالم «رولز رويس».
وأدت هذه الإجراءات إلى معاناة الملايين من أبناء الطبقة المتوسطة وما دونها وازدادت الهوة ما بين فقراء الشعب وأثريائه وفاقم معاناتهم، مما جعل المواطن الإنجليزي يطلق على السيدة تاتشر مسمى «سارقة حليب الأطفال»!. إشارة إلى منعها للحليب الذى كان يتم منحه مجانا لأطفال المدارس الإنجليزية.
الغريب أن الإجراءات التى اتخذتها تاتشر بسبب معاناتها من أزمة اقتصادية وحالة ركود وتزايد ديون حكومية قد امتدت إلى كثير من الدول على رأسها أمريكا التى نقلت التجربة البريطانية وبعدها عدة دول أوروبية حتى وصلت التجربة إلى مصر في استحياء مريب في نهاية فترة التسعينيات.
التجربة الإنجليزية إذن كان لها ما يبررها وكانت نتيجة ظرف استثنائى تحت وطأة مشكلات اقتصادية تتعلق بالإنفاق الحكومى في دولة كانت قد حققت إنجازات طويلة في رفاهية شعوبها وتعليمهم وأنجزت بناء أسس نهضتها العلمية والتعليمية. وبالتالى فإن التجربة كانت نتاج ظروفها الخاصة. فبالنظر إلى ملابسات تلك المرحلة فبريطانيا خاضت في تلك الفترة العصيبة حرب «جزر الفوكلاند» مع الأرجنتين وكانت لديها أيضا مشكلات خاصة في دولة أيرلندا، التى تصر إنجلترا على استعمارها حتى اليوم، وكانت عمليات الجيش الإيرلندى تتصدر الأنباء كل صباح، وتستنزف الخزانة البريطانية المنهكة أصلا، بسبب الركود والانكماش الاقتصادي.
لذلك فإن كل تجربة لها ظروفها الموضوعية التى توافرت لها كما أن لكل مجتمع ظروفه الإنسانية والمعيشية والاقتصادية التى تجبره على التمسك بنسق اقتصادى معين. فما يصلح لمجتمع ليس بالضرورة يصلح لكل المجتمعات خاصة المجتمعات العربية التى ما زالت تتعثر في مهد العلم وتحتاج إلى فترة غير قليلة لاجتياز هذه المرحلة ثقافيا ومجتمعيا.
سيدة الخصخصة التعليمية إذن هى السيدة تاتشر، التى استفادت بشكل شخصي، من دعم دولتها للتعليم، لكنها بعد أن تزوجت من رجل أعمال ثرى وأصبحت تجلس على الكرسى الأعلى في السلطة السياسية في بلادها، لم تجد غضاضة في أن تقلب يدها على فقراء قومها، وأن تسيء إليهم، وتركت سنة غير حميدة اتبعها بعدها من خلفها وخلف جيرانها من العرب والعجم.
الضرورة التى ألجأت تاتشر للإجهاز على دعم الدولة للتعليم خاصة المتوسط والجامعى لم تتوافر ظروفها في مجتمعات ما زالت تعانى من الأمية الأبجدية وما زالت نسبة لا بأس بها من مواطنيها تعانى من عجزها عن تهجى الحروف و«فك الخط»!! مجتمع ما زالت نسبة غير قليلة منه تعتبر أن الخبز «الحاف» هو سبيلها كى تستمر على قيد الحياة وأن تنويع غذائها رفاهية لا يملكها كثيرون. فبالتالى لن تستطيع أن تدفع كلفة العلم والتعلم.. مجتمع كهذا لا يجب أن نطالبه بالإنفاق على التعليم وهو بالكاد يملك قوت يومه.
وبالتالى لن يلجأ للإنفاق على التعليم، إلا أولو العزم والثروة من القوم.. ولن ينال حلاوة العلم، من لم يذق حلاوة الحياة الكريمة، كما أن هؤلاء الأثرياء لن يشغلوا أنفسهم بأكثر من الحصول على مؤهل شكلي، يحفظ لهم هيئتهم الاجتماعية، وهيبتهم بين أبناء طبقتهم وأوطانهم، ولن يشغلوا أنفسهم فيما هو أكثر من هذا، فلن يفيدهم انخراطهم في العلم الحقيقي، في الترقى الاجتماعي، فلديهم الثروة التى تكفيهم مؤنة الحياة، وتجعلهم في قمة السلم الاجتماعي غير عابئين بأهمية العلم في بناء مجتمعاتهم وأوطانهم.
والنماذج والشواهد تؤكد هذا، فالطبقة المتوسطة وما دونها هى التى أسهمت في إنتاج العلماء والمفكرين في كل العصور، ومعظم المجتمعات، فالعلم بالنسبة لهم، هو أسهل الطرق، للترقى اجتماعيًا وماديًا، أما أصحاب الثروة، فلن يجهدوا أنفسهم في مجال لن يحقق لهم غالبا مزيدا من الثروة، بقدر ما يستنفذ منهم مجهودا عائده هزيل، بالقياس إلى أى نشاط تجارى أو حتى صناعى!!.
لذلك فرفقا بالوطن قبل الفقراء في إتاحة فرص التعليم كافية لهم لأننا بحاجة إلى علماء يسهمون في نهضة بلادهم، أكثر من حاجتنا إلى أثرياء يكدسون أموالهم، ويزيدون الهوة بين طبقات مجتمعاتهم.