ظهيرة الأربعاء الأسبوع الماضى لدى وصولى لمكتبى بكلية الإعلام جامعة القاهرة، تفحصت جهاز تليفونى المحمول فوجدت أن شقيقتى ناهد قد اتصلت بي، فاتصلت بها لربما كان هناك أمر مهم تريد أن تحدثنى فيه، لأن مكالماتها في مثل هذا التوقيت غير معتادة، ففوجئت أن زوجها هو مَنْ يرد على مكالمتي، فاستغربت لماذا قد يكون تليفون شقيقتى بيد زوجها، فسألته عن هذا الأمر، فذكر لى أن ناهد دخلت العناية المركزة بأحد المستشفيات الخاصة بمدينة نصر، فكدت أن يغمى علىّ من هول الصدمة، لأن شقيقتى لم تكن تعانى ألمًا أو مرضًا عُضالًا حتى يصل بها إلى ذلك الممر الضيق بين الحياة والموت والمُسمى «غرفة الرعاية المركزة».
وعندما استطلعت الأمر من ابنها والطبيب المشرف على حالتها تبين أن ثمة التهابًا نتج عن وجود حصوة صغيرة في الحالب كانت تستعد لتفتيتها أدى إلى وجود نوع من البكتيريا الضارة التى تسببت في تفاقم حالتها، واختلال القياسات الحيوية للجسم من ضغط وسكر، ووجود ارتشاح في المخ أدى إلى اختلال بعض وظائفه، الأدهى من ذلك أن شقيقتى ذهبت إلى أحد المستشفيات التابعة للتأمين الصحى على قدميها، وذكروا لها أنها في حاجة للدخول إلى غرفة الرعاية المركزة، ولا يوجد لديهم مكانٌ شاغر، فذهبت إلى مستشفى خاص ثانٍ فتلقت الرد نفسه، فذهبت إلى مستشفى خاص ثالث وهى في كامل وعيها، لتفقد الوعى فجأة لتدخل مباشرة ذلك الممر الضيق بين الحياة والموت.
لقد وصل السكر لديها إلى 800 ووصل ضغط الدم إلى معدل قياسي، وبدأت البكتيريا الضارة تُعمل عملها في جسمها المتداعى ووصلت إلى المخ لتسبب قدرًا من الارتشاح، وقد نجح الأطباء في المستشفى بعد جهدٍ جهيد أن يعيدوا القياسات الحيوية إلى معدلاتها الطبيعية، كما حاولوا محاصرة البكتيريا بالمضادات الحيوية، ولكن هيهات الرسو على شاطئ الأمان في ذلك الممر الضيق بين الحياة والموت في الحالات التى يحاصرها قدر الله ومشيئته، فاليوم لا مهربَ منه إلا إليه؛ ففى فجر يوم الجمعة حدث هبوط في الدورة الدموية، ثم انخفاض حاد في ضغط الدم والقياسات الحيوية للجسم، فهرعنا جميعًا إلى المستشفى، لنتابع الأمر، وماهى إلا ساعات معدودات حتى أسلمت شقيقتى الروح إلى مَنْ لا تضيع عنده الودائع.. كم هى حقيرة هذه الدنيا التى تسلبك أعز ما تملك دون سابق مقدمات، إن الفراق المفاجئ صدمة ما بعدها صدمة لكل مَنْ عرفوها وارتبطوا بها من أشقاء وشقيقات وأبناء وبنات وأهل وأقارب وأصدقاء، كان أمرًا مزلزلًا عصف بكل القلوب وأوقف كل العقول عن تصديق هذا المُصاب الجلل.
لقد كانت شقيقتى ناهد التى تصغرنى بثلاث سنوات من ورثة الأنبياء، فقد تخرجت في قسم الجغرافيا كلية البنات جامعة عين شمس، وعملت مدرسة للدراسات الاجتماعية في المرحلة الإعدادية ثم مدرسة للجغرافيا في المرحلة الثانوية وترقت إلى أن وصلت وكيلة لمدرسة الشمس التجريبية بإدارة الخانكة التعليمية بمحافظة القليوبية، وعينت في السنة الأخيرة مديرة لمدرسة سميرة موسى التجريبية بإدارة شبرا الخيمة التعليمية، ورغم بعد المدرسة عن مقر سكنها، إلا أنها كانت تبذل جهدًا كبيرًا في تطوير المدرسة وفق رؤيتها التى اكتسبتها عبر خبرة السنين في مجال التعليم، ولم تعتزل التدريس رغم أعبائها الإدارية، فكان لديها جدول حصص تحرص على الالتزام به، وقد شاهدت لها فيديو على موقع مدرسة سميرة موسى وهى تقوم بتدريس الجغرافيا لبعض تلاميذها بكل الحب والاهتمام والحرص على التفاعل وتوصيل المعلومة، في زمن انصرف فيه معظم المعلمين إلى شئونهم الخاصة.
وشقيقتى ناهد هى زوجة أيضًا لمربى فاضل وابن عمها في الوقت ذاته كان يعمل وكيلًا لأحد المعاهد الأزهرية في مدينة الخانكة قليوبية، ورغم الأعباء الخاصة بالأسرة وتربية الأبناء، إلا أن شقيقتى وزوجها لم يقوما يومًا بإعطاء الدروس الخصوصية لكى يثروا على حساب أبنائهم وبناتهم الطلاب، بل أنهما كانا يحرصان على تقديم كل الدعم والمساندة لأبناء العائلة وأبناء الأصدقاء والمعارف في مادتيْ الجغرافيا واللغة العربية دون مقابل ابتغاء مرضاة الله، وحرصًا على نشر قيمة العلم بين الناس، لقد اعتبروا أن العلم ميراث الأنبياء لا يمكن أن يُباع أو يُشترى بدراهم معدودة، أنه ليس سلعة في زمنٍ أصبح فيه لكل شيء ثمن، ومَن لا يدفع ثمن الشيء لا يستطيع الحصول عليه، لقد كانت شقيقتى وزوجها من الذين يحملون رسالة العلم وإرث الأنبياء في زمنٍ توقف فيه الوحى عن النزول من السماء، وعز فيه الأنبياء، وتنكر ورثتهم لهم، وباعوا إرثهم على قارعة الطريق وفى مراكز الدروس الخصوصية وفى منازل أبناء علية القوم، باعوا العلم لمن يدفع أكثر، ادفع لكى تتفوق وتدخل كليات القمة.
ولأن الله لا يضيع أجر مَن أحسن عملا، فقد جزا الله شقيقتى الغالية وزوجها المحترم أسرة رائعة، فلديها ابنها الكبير المهندس أحمد الذى تفوق في الثانوية العامة من مدرسة حكومية عادية لا هى خاصة ولا تجريبية ولا مدرسة لغات ولا دولية، ورغم ذلك بجده واجتهاده وتمثلًا لكفاح والديْه استطاع أن يحصل على منحة مجانية للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة التى لا يلتحق بها إلا عليه القوم ممن يملكون الثمن تلك الحفنة من الدولارات، إلا أنه استبدل العلم والجد والاجتهاد بتلك الدولارات التى يملكها أولئك المرفهون من أبناء مَن يملكون في هذا البلد، بل إنه استطاع أن يحصل بعد ذلك بمنحة أخرى على الماجستير من الجامعة نفسها، وأتمنى أن تتيح له الجامعة الأمريكية أو غيرها من الجامعات منحة للدكتوراة لهذا الشاب النابه تكريمًا له على اجتهاده، وتكريمًا لأسرته ومساهماتها في مجال التعليم.
كما تركت لنا الفقيدة الغالية ابنتيْن ولا أروع تخرجت إحداهما في كلية الفنون التطبيقية وتعمل الآن مهندسة، والثانية لا تزال في الثانوية العامة، وندعو الله لها بالتوفيق، وألا تؤثر آلام فقدان الأم على مسيرتها التعليمية.
لقد كان هذا العام عامًا صعبًا ومؤلمًا وحزينًا وباكيًا وغائمًا بسحابات الحزن العميق، في أوله فقدت أمى الغالية التى لا تكفيها دموع الدنيا لكى أغسل حزنى عليها، وفى آخره فقدت شقيقتى توأم روحى ومكمن أسرارى ووديعة أحاسيسى ومشاعرى ورفيقة طريق طويل من العلم والعمل والكفاح والنجاح في أثناء مساعدتها لى وأنا طالب في كلية الإعلام وفى أثناء إعداد رسالتى للماجستير في أولى خطوات الحياة الأكاديمية عندما كانت الأحلام والطموحات عريضة لا تدانيها سوى نجوم السماء العاليات، ولم نكن نتوقع أن للحياة قسوتها وانعدام معاييرها وأن التفوق فيها قد يكون نقمة في كثير من الأحايين وقد يكون نعمة في بعضها.
لقد مر على عام 2019.. عام الحزن بعد أن فقدت اثنتيْن من أعز مَن أمتلك في هذه الدنيا الفانية، ماتت مَن كان يكرمنا الله لأجلها، وماتت مَن كنا نستلهم منها المودة والرحمة والطموح ومشاعر الأخوة النبيلة الراقية.. مات في عينى وقلبى ومشاعرى ثلثيْ هذا العالم الفاني.. رحمهما الله رحمة واسعة وألحقنى بهما على خير.