كانت القرية التي وُلِدت فيها في قلب صعيد مصر إذا رُزِقَ أحدهم بولد ينشدّ ظهرُه وينسند، يبدأ أقاربه وأصدقاؤه في إطلاق الأعيرة النارية ابتهاجا، وتُذبح الذبائح، وتُعلّق الزينة، ولكنه إذا رُزِق بفتاة يمشي حزينًا، يجرُّ أذيال الخيبة، يُداري وجهه عن الناس مما رُزِق..
كنت أرى الرجال وجوههم شاحبة قُبيل ساعة ولادة زوجاتهم، يتضرعون إلى الله ألا يُخيِّبَ رجاءهم، وأن يرزقهم بالولد؛ لذلك استغربت نفسي واستغربني الناس، عندما طرتُ فرحًا بمولودتي الأولى "غادة"، كانت جميلة بهية كالقمر، لم يُصدِّق أحد ممن رآها في ذلك اليوم أنها ابنة ساعات فقط، فقد كان حجمها ووجهُها يعطيان انطباعًا بأنها ابنة شهرين على الأقل.. كانت غادة، ولم تزل، بنت سبعة أشهر، لكن الله سبحانه وتعالى منحها ذكاء منقطع النظير، وجمالا يحسدها عليه كل أبناء جيلها من فتيات العائلة.. اعتبرت غادة صديقتي الصغيرة.. حتى وهي ما زالت تتعلم الحبو، كنت أجلس إليها وأحكي لها كل شيء؛ أحلامي، طموحاتي، كبواتي .. حتى مشاكلي الكبرى في الحياة كنت أَقُصُّها عليها.
كانت إذا ضحكت تضحك لي الدنيا، وإذا مرضت أو عبست، تظلم الدنيا في وجهي، كنت أريد أن أسعد بها لأطول وقت ممكن، فطلبت من زوجتي أن تتريث كثيرا قُبيل أن تحمل مرة أخرى لتترك لي فرصة لأنعم بتربية خاصة لابنتي الحبيبة، ولأن الأم صعيدية، ولأننا كنا نعيش في صعيد مصر آنذاك، عام ١٩٨٤، فقد كان الضغط عليها شديدا، سواء من أهلها أو أهلي.. "الحقيه بالولد قبل ما يهرب يا وفاء"، لم يعلموا أن غادة عندي تساوي ألف ولد مما يَعُدُّون، فقد كانت ابنتي وصديقتي وحبيبتي ولم تَزَلْ.. ولأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن معاندته، فقد حملت زوجتي في ولد، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد ألا يتم الحمل بسلام، ففشل في الشهر السادس، وتشاء الأقدار أن تحمل زوجتي في نفس الشهر، وتأتي بعد تسعة أشهر بحبيبتي الثانية "داليا"، ولدت داليا ضعيفة بدنيًا على عكس غادة؛ لأنها جاءت على "سقط" كما قال لي الأطباء، وما كان ذلك ليحدث ولكنها إرادة الله، لم تأخذ مني داليا اهتماما كبيرا في الفترة الأولى، كغادة، لأني تركتها في الأسبوع الأول، وذهبت إلى موسكو للدراسة، عُدت وكانت داليا قد كبرت، فضممتها إلى حضني عاما كاملا، لم أستطع فيه مفارقتها لحظة واحدة حتى حان الوقت للرحيل إلى القاهرة، حيث عُيِّنت صحفيا بجريدة الأهالي، كنت أقضي خمسة أيام في القاهرة وأعود لأقضي مع الأسرة يومين في المنيا.. وسرعان ما ساعد الضغط على زوجتي، مرة أخرى، من قبل الجميع بمجيء حبيبتي الثالثة "شاهندة"..
كانت شاهندة "أشقى" بنت في المنزل؛ من حيث الحركة وتحطيم كل شيء تقع عليه يداها، وكانت زوجتي تغضب منها غضبا شديدا، لكنني كنت أقوم بتعويضها بأشياء جديدة بدلا من المحطمة حتى لا تعاقبها، وحينما لاحظت أن بعض أفراد العائلة يحاولون مُناداتها كطفل وليس كطفلة، جُنَّ جنوني وقاطعتهم؛ لأنهم لا يعلمون أن الثلاث زهرات أصبحن كل حياتي، لم أُرِدْ من الدنيا سواهن، كنت إذا عُدْتُ يتجمعن حولي، يَحْكِين لي ما حدث لَهُنَّ طوال اليوم وما فعلنه.. نضحك ونلعب ونغني ونرقص فيحولن حياتي في لحظة إلى جنة.. أنسى من خلالها تعب اليوم وكل مشكلات العمل والحياة..
ولكن الحلم ظل يسيطر على الأم بحكم تركيبتها الصعيدية.. البنات الثلاث كُنَّ ولم يزلن كل حياتي.. وكنا قد رحلنا جميعا إلى القاهرة، فلم أستطع أن أستغني عن اللعب معهن، أجالسهن على قدمي عندما أعود من العمل لكي أسمع حكاياتهن الصغيرة.. ذهبنا معًا إلى كل مكان في المحروسة، وطرنا معًا إلى كل مكان أستطيع أن أصطحبهن معي فيه، فلم تكن سعادتي تكتمل إلا بوجودهن بجانبي..
أذكر أنه عندما تزوجت "غادة" رحلت خلفها إلى كل مكان ذهبت فيه لقضاء شهر العسل، حتى بِتّ حديث العائلة والأصدقاء، لم أستطع أن أتخيل، مجرد تخيل أن تخرج ابنتي وحبيبتي من حضني وبيتي وتعيش مع رجل آخر، حتى ولو كان زوجها..
وسرعان ما أخبرتني زوجتي أنها حامل، وأنها حامل في ولد.. تشاجرنا يومها؛ لأنها كانت تعتقد أن ذلك الخبر سوف يُدخل الفرحة إلى قلبي أخيرا، كما قالت، ولم تدرك أن هؤلاء الفتيات أصبحن كل حياتي، وأنني مُسْتَغْنٍ بهن عن العالم كله..
وجاء خالد، وهو الوحيد الذي وُلِد في القاهرة، فكان أخي وصديقي، لكنه أبدًا، حتى هو بات يعرف ذلك ويُقَدِّره ويحترمه، لم يأخذ ذرَّة واحدة من عِشْقي للبنات، وورث خالد ذلك العشق مني فأصبح أخًا وأبًا وصديقًا لهن.. غادة شقيقته الكبرى تعتبره ابنها، وهو بالنسبة لشقيقتيه، داليا وشاهندة، الأخ والصديق والسند..
ظللت أنا وخالد نُشمشم فيهن كالقطط، وفي كل عام ما زلت أشم فيهن رائحة خبز أمي وقهوة أمي، وأحس معهن بدفء شمس بلادي في الشتاء، وما زلت أفخر رغم وجود خالد في حياتي بلقب: أبو البنات..