تجسد حرب تحرير العاصمة الليبية طرابلس من سطوة جماعات الإرهاب، الحلقة الأخيرة فى الصراع الإقليمى والتنافس الدولى على غاز منطقة شرق البحر المتوسط، إضافة إلى ما تمتلكه ليبيا من ثروات بترولية وغازية سواء على أراضيها أو فى مياهها الإقليمية.
وليست جماعة الإخوان وما تمثله من التيارات المتشددة سوى إحدى الأدوات التركية التى تستخدمها أنقرة لبسط نفوذها داخل منطقة الشرق الأوسط، فالأمر يتخطى مسألة التوافق الأيديولوجى باعتبار الرئيس التركى رجب طيب أردوغان المرشد العام الفعلى للتنظيم الدولى، فقد صوت لصالح اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا غالبية أعضاء البرلمان التركى بإجماع حزب العدالة والتنمية الإخوانى وكذلك حزب الشعب الجمهورى المعارض، بمعنى آخر فإن هناك إجماعا تركيا على الطمع فى ثروات الغير، وأننا كنا سنشهد أدوات أخرى يستخدمها حزب الشعب الجمهورى لتحقيق تلك الأطماع إذا ما كان فى سدة الحكم.
قبل أسبوعين عرض أردوغان على تل أبيب مد خطوط أنابيب نقل الغاز الإسرائيلى إلى أوروبا عبر تركيا، وعندما لم يتلق ردا أطلق تصريحا ناريا يحذر فيه كل من مصر وإسرائيل وقبرص واليونان من مد خطوط نقل الغاز دون إذنه، ومن جانبها ردت إسرائيل على لسان وزير خارجيتها «يسرئيل كاتس» إنها تعارض اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا وقال كاتس إن الاتفاقية غير قانونية لكن هذا لا يعنى أننا سنرسل سفنا حربية لمواجهة أنقرة.
لكن خبير الطاقة ورئيس جمعية مستثمرى الغاز دكتور محمد سعد الدين يرى أن تل أبيب ردت على أنقرة بإعلان توقيع اتفاقية مع كل من قبرص واليونان لمد خط أنابيب نقل الغاز إلى أوروبا مباشرة، ويقول إن أردوغان أراد الحصول على اعتراف ضمنى من إسرائيل على الاتفاقيه البحرية مع فائز السراج، ففى حال وافقت تل أبيب على عرضه فهذا يعنى إقرارا بأن له حدودا وتواجدا فى منطقة غاز شرق المتوسط، إلا أن إسرائيل تدرك جيدا عدم قانونية تلك الاتفاقية.
ونوه خبير الطاقة فى ثنايا حديثه إلى أن الخط المزمع إنشاؤه بين إسرائيل واليونان وقبرص لا يؤثر على الاتفاق المصرى الإسرائيلى الذى بموجبه تقوم مصر باستيراد غاز إسرائيل بهدف إسالته وإعادة تصديره إلى أوروبا، وقال: إن هذه الصفقة التى وصفها الرئيس عبدالفتاح السيسى بالجول الكبير كانت بمثابة صفعة كبيرة لتركيا.
فعلاوة على ما ستحققه مصر من فوائد اقتصادية كبيرة فإنها كانت أيضا إحدى الركائز التى جعلت مصر مركزا إقليميا للطاقة وهو ما يمنح الدولة المصرية ثقلا سياسيا على المستويين الإقليمى والدولى بسبب وضعها المميز فى منتدى غاز شرق المتوسط الذى ستكون القاهرة مقره الرئيسي.
لكن ثروات الغاز الهائلة فى شرق البحر المتوسط خلقت صراعات معقدة باتت ليبيا عنوانها الرئيسى وجعلت الدول تبدو وكأنها تتخذ مواقفا سياسية متناقضة، أبرزها الموقف الإيطالى فبينما رفضت روما اتفاق السراج أردوغان نجدها تسعى حثيثا للحفاظ على بقايا حكومة السراج فى طرابلس ليكون لها مقعد على طاولة مؤتمر برلين؛ فقد أعلن وزير الخارجية الإيطالى لويجى دى مايو عما أسماها بمهمة أوربية حيث ستنطلق مجموعة من وزراء خارجية الدول الأوربية بقيادة الممثل السامى للاتحاد الأوروبى للسياسة الخارجية والأمنية، جوزيف بوريل، إلى ليبيا لعقد مشاورات تنتهى إلى تشكيل لجنة ليبية تضم ممثلين عن جميع الأطراف لتجتمع لاحقا فى جنيف بهدف الوصول إلى اتفاق محدد يقوم مؤتمر برلين بالتصديق على بنوده.
وعلى الأرجح لن تنجح المساعى الإيطالية بهذه الصيغة لاسيما أن الجيش الوطنى الليبى وكذلك مجلس النواب لن يوافقا على أن يكون للسراج وأعضاء مجلسه الرئاسى دور مستقبلى فى أى تسوية سياسية كون فائز السراج بات يمثل فى واقع الأمر الجماعات الإرهابية والعصابات الإجرامية التى عاثت فسادا فى طرابلس وغيرها من مدن الغرب الليبى إضافة إلى استدعائه أردوغان لاحتلال بلاده رسميا.
الموقف الأمريكى لا يزال غامضا ملتبسا هو الآخر فبينما رفضت واشنطن الاتفاق البحرى والأمنى بين السراج وأردوغان ما زالت تحث المشير خليفة حفتر على وقف عملية تحرير العاصمة من سطوة الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة.
هذا التوافق الأوربى والأمريكى على رفض اتفاق السراج وأردوغان وانتهاكات الأخير لشرق المتوسط واختلافهم على الموقف من فائز السراج وحكومته المدعوم تركيا، ما يسمح لأنقرة بالتمادى فى تهديداتها، فوفقا لقناة 218 الليبية يستعد حزب أردوغان «العدالة والتنمية» لتمرير قرار داخل البرلمان التركى فى السابع من يناير المقبل يقضى بإرسال ضباط وجنود أتراك إلى ليبيا.
طرابلس تمثل معركة راعى الإرهاب التركى الأخيرة ولا يبدو أن الضغوط الدولية والإقليمية ستثنيه عن هدفه الحالى وهو إطالة أمد الصراع فى ليبيا والعمل على تقسيمها باحتلال أجزائها الغربية ليفرض بذلك واقعا جديدا على المنطقة إلا إذا مارست القوى الدولية ضغوطا أكثر حسما من شأنها تهديد النظام التركى داخليا.
فليس من المتوقع أن تقف الدول العربية وفى المقدمة مصر مكتوفة الأيدى إذا أصبح الجيش التركى طرفا رسميا فى حرب طرابلس.
المحلل السياسى والمتخصص فى الشأن الليبى محمد فتحى الشريف قال «من حق مجلس النواب الليبى أن يطلب من الجامعة العربية تفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك حال وصول تعزيزات من الجيش التركى للجماعات الإرهابية والعصابات المسلحة فى طرابلس واستبعد الشريف أن تقدم تركيا على خطوة من هذا النوع.
وفيما يتعلق بموقف جامعة الدول العربية وصمتها عن انتهاك فائز السراج لاتفاقية الصخيرات بإبرامه اتفاقيات دولية مخالفة لبنود الصخيرات وقواعد القانون الدولى أوضح الشريف أن الجامعة العربية مكبلة بمواقف أعضائها فمنهم من يدعم ويؤازر فائز السراج وميليشياته الإرهابية مثل قطر ومنها تميل مواقفه إلى المجلس الرئاسى مثل تونس بينما تتسم مواقف دول أخرى بالغموض وفى مقدمتها المغرب والجزائر.
لكن محمد فتحى الشريف توقع أن تكون دول مثل مصر والسعودية والإمارات والبحرين تعمل حاليا على تهيئة الظرف السياسى بما يمكن جامعة الدول العربية من اتخاذ قرار حاسم تنزع به الشرعية عن فائز السراج وحكومته.
يبقى الرهان الأول والأخير على الجيش الوطنى الليبى العازم على تحرير طرابلس فبانتصاره تنحل كل العقد وتنتهى أحلام أردوغان ويدفن مشروع الإسلام السياسى فى منطقة الشرق الأوسط للأبد.