الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"ميرامار".. وثورة يوليو

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رحب نجيب محفوظ بثورة يوليو، ووجد فيها ثورة للعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية، ودعوة للعروبة، وإحياءً للقومية العربية والديمقراطية. وظن نجيب محفوظ أن قيام ثورة يوليو أنهى كل الأسئلة، وأنه لم يعد لديه ما يقوله أو يكتبه. وأعلن ذلك فعلًا، ثم تبين له أن الثورة تبنى بيد وتهدم بالأخرى، تلغى النظام الملكى، وتحقق الجلاء، وتقيم الإصلاح الزراعى وتبنى السد العالى، وتناصر حركات التحرر الوطنى. ولكن الثورة فى المقابل – كانت تسلم مؤسسات الدولة لأناس بلا كفاءة ولا خُلُق، وقادتها منغمسون فى الترف والثراء، وتنكل بأهل الرأى من مخالفيها، ولا تضع فى اعتبارها قوتها الحقيقية، فكانت الهزيمة الرهيبة المتمثلة فى نكسة يونيو. (آفاق عربية – يوليو 1976، نقلًا عن محمد جبريل، نجيب محفوظ – صداقة بين جيلين، مكتبة مصر، القاهرة، 2006، ص 66).
وفى روايته «ميرامار» يعرض نجيب محفوظ لنماذج بشرية من واقع المجتمع المصرى اكتوت بلهيب ثورة يوليو، وأخرى نعمت بضيائها. فصاحبة بنسيون «ميرامار» هى «ماريانا» اليونانية العجوز التى فقدت زوجها الإنجليزى فى ثورة 1919، وفقدت ثروتها فى ثورة 1952. و«طلبة مرزوق» وكيل وزارة الأوقاف السابق، والإقطاعى الكبير عضو أحد أحزاب السراى، الذى صادرت الثورة أرضه، ووضعت أملاكه تحت الحراسة. وفى المقابل هناك «سرحان البحيرى»، ذلك الانتهازى الذى حقق مكاسب، واحتل مناصب مهمة فى الدولة والتنظيمات الشعبية، مدعيًا انتماءه للثورة. 
إن ولع نجيب محفوظ بموضوع «المكان» بكل أبعاده الحسية والميتافيزيقية، دفعه دفعًا لأن يعنون عددًا من رواياته بأسماء أماكن: «القاهرة الجديدة»، «خان الخليلي»، «زقاق المدق»، «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «السكرية»، «الكرنك»، «قشتمر» وها هو يُطْلِق اسم «ميرامار» على روايته التى نتناولها بالعرض فى هذا المقال، نسبةً إلى «بنسيون» بالإسكندرية. وفى هذه الرواية لا يعتمد نجيب محفوظ على البطل الواحد الذى يكون محورًا لكل وقائع وأحداث الرواية، إذ تخلو الرواية من وجود بطل رئيسى تتجمع عنده كل الشخصيات، وتتلاقى عنده كل الوقائع والأحداث. فى «ميرامار» تكتسب كل شخصية من شخصيات الرواية الأهمية ذاتها التى تتحلى بها الشخصيات الأخرى، حيث تساهم كل شخصية بقدر ملحوظ فى بلورة القضية المحورية التى تعالجها الرواية. 
لقد عرض نجيب محفوظ لأحداث الرواية خلال التجربة الخاصة لأشخاص أربعة هم: «عامر وجدى»، و«حسنى علاّم»، و«منصور باهي»، و«سرحان البحيري». وإذا بدأنا بالراوى الأول «عامر وجدى»، فهو وفدى قديم وصحفى كبير على المعاش فى الثمانين من عمره، وهو الراوى الوحيد الذى يبدأ الرواية وينهيها. يشعر «عامر وجدى» وهو الصحفى المخضرم أنه يعيش فى عصر غير عصره، مدركًا أن كل شيء قد انتهى بالنسبة له، ولقد «انطوت صفحة تاريخ بلا كلمة وداع، ولا حفلة تكريم، ولا حتى مقال. أيها الأنذال، أيها اللوطيون ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟!» (ميرامار، ص 22). 
ويخلى الراوى الأول «عامر وجدى» المكان لراوٍ آخر هو «حسنى علاّم»، وهو شاب وسيم يصغر سرحان بقليل، ربعة أبيض اللون، ذو بنيان متين يليق بمصارع، وهو من أعيان طنطا، يملك مائة فدان، يخشى أن يصادرها الإصلاح الزراعي، ولهذا فهو فى أزمة، إضافةً لأزماته الأخرى المتمثلة فى أنه اُمِّيُّ، فضلًا عن أنه يفتقر إلى أية موهبة مهمة، سوى موهبة نصب شباكه للإيقاع بالنساء ومطاردتهن، والاعتداء عليهن أحيانًا، كما حاول أن يفعل ذلك مع «زهرة». 
ثم يأتى دور «منصور باهي» فى الحكي، وهو مذيع بمحطة الإسكندرية، فى الخامسة والعشرين، رقيق الوجه، وقسماته صغيرة وجميلة، فيه شيء من الطفولة ولا أقول الأنوثة، ولكن بدا من أول الأمر أنه يعيش فى ذاته عسير الألفة. (ميرامار، ص 50). وهو ينتمى إلى حركة تقدمية معارضة، إنه ثورى مرتد، خان مبدأه، لا بالارتداد عليه فحسب، بل بالتخلى عن زملائه والوشاية بهم. وقد واصل خيانته على مستوى أخلاقى أشد حطّة، إذ يعاود حبًا قديمًا مع زوجة رفيقه المعتقل، ولكنه سرعان ما يكف، ويزداد تأزمًا، ويسقط فى فراغ، ويتطلع عبثًا إلى أمل أو هدف، فلا يجد أمامه سوى ارتكاب جريمة، تمثلت فى محاولة قتله لسرحان البحيري، حين عثر عليه ملقى فى الطريق، فظن أنه مغشيٌّ عليه، وأخذ يركله بحذائه فى مواضع مختلفة من جسمه، وعندما نشرت الصحف فى اليوم التالى خبر وفاة سرحان، اعتقد أنه هو قاتله، فى حين أن سرحان – فى الحقيقة وطبقًا لتقرير الطب الشرعى – مات منتحرًا حين علم بأمر انكشاف محاولته سرقة لورى محملًا بالمنسوجات من الشركة التى يعمل بها. 
حان دور الراوى الرابع «سرحان البحيرى» وكيل حسابات شركة الغزل وعضو لجنة العشرين بالاتحاد الاشتراكي، والعضو المنتخب عن الموظفين، ولقد كان سرحان محورًا للأحداث بحكم تطلعاته الطبقية، وانتهازيته البرجوازية، وذكائه الفطرى، وميل «زهرة» بالذات إليه، لأن الاثنين قدما من «البحيرة»، ويحملان الطابع الريفى نفسه بكل متناقضاته. 
ليس فى وسعنا أن نعتبر أحد هؤلاء الرواة الأربعة بطلًا منفردًا للرواية، لأن «زهرة» كانت هى البطل الحقيقي، والتى تُعَد محور الرواية، إنها تلك الفتاة الريفية التى هربت من قريتها فى البحيرة بعد وفاة أبيها، لأن جدها أراد أن يزوجها عجوزًا مسنًا لتخدمه، وجاءت تبحث عن عمل وملجأ فى المدينة. واشتغلت خادمة فى بنسيون «ميرامار»، وهى قوية بسيطة واثقة من نفسها، ولكنها جميلة يجذب جمالها الأنظار، وقد جعلها الكاتب المحك الذى يكشف حقيقة الشخصيات الأخرى، وقد اختلفت شخوص الرواية جميعًا باختلاف مواقفهم من «زهرة». إنها الشخصية الوحيدة التى تمثل المستقبل، وهى «مصر» التى صورها الفنانون فى شكل فلاحة منذ أيام مختار وتمثال نهضة مصر. (د. فاطمة موسى، ميرامار، مجلة الكاتب، القاهرة، أبريل 1967).
على أن «سرحان البحيري» هو وحده الذى فاز بقلب «زهرة»، ولكنه أراد لهذا الحب أن يقتصر على أن يكون مجرد متعة بغير مسئولية، ودون زواج. وعندما تأبى «زهرة»عليه ذلك، ينتقل بقلبه إلى فتاة أخرى تؤهلها مكانتها الاجتماعية من أن تكون زوجة مفيدة له! ولم تكن هذه الفتاة سوى المُدَرِّسة التى تُعَلِّم «زهرة» القراءة والكتابة. وهكذا تفقد «زهرة» الثقة بمن حولها وتغادر البنسيون بعد محنة اختبار عاطفى فاشل، ولكن وقت «زهرة» لم يضع سدى فى البنسيون كما يقول لها «عامر وجدى» فى نهاية الرواية: «لقد عرفت من لا يصلحون لها، وبهذا عرفت بطريقة سحرية الصالح المنشود». (محمود أمين العالم، تأملات فى عالم نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1970، ص 131).