رحل المفكر الإسلامى محمد شحرور، مساء
السبت الماضى، بعد رحلة عطاء متفردة، وصادقة، استخدم فيها العقل وأجبر الجميع على إعمال
فريضة التفكير وهم يتناولون أو يقرأون فى التاريخ الإسلامى.
ومحمد شحرور (١٩٣٨- ٢٠١٩)؛ مهندس وباحث
ومفكر سوري، وأحد أساتذة الهندسة المدنية فى جامعة دمشق ومؤلف ومنظر لما أُطلِق عليه
القراءة المعاصرة للقرآن. بدأ شحرور كتاباته عن القرآن والإسلام بعد عودته من موسكو
واتهمه البعض باعتناقه للفكر الماركسى (رغم نفى جميع مؤلفاته ذلك). فى سنة ١٩٩٠ أصدر
كتاب الكتاب والقرآن الذى حاول فيه تطبيق بعض الأساليب اللغوية الجديدة فى محاولة لإيجاد
تفسير جديد للقرآن، مما أثار لغطا شديدا استمر سنوات وصدر العديد من الكتب لنقاش الأفكار
الواردة فى كتابه ومحاولة دحضها أو تأييدها. هذا وقد كسب محمد شحرور العديد من المؤيدين
والمعارضين لأفكاره فى العديد من البلدان.
ولد محمد شحرور بن ديب فى دمشق عام
١٩٣٨ من عائلة متوسطة حيث كان والده صباغا، أتم تعليمه الثانوى فى دمشق وحاز الثانوية
العامة ١٩٥٨ وسافر بعد ذلك إلى الاتحاد السوفيتى ليتابع دراسته فى الهندسة المدنية،
وتخرج بدرجة دبلوم ١٩٦٤ من جامعة موسكو آنذاك ثم عاد لدمشق ليعين فيها معيدًا فى كلية
الهندسة المدنية فى جامعة دمشق حتى عام ١٩٦٨. أوفد إلى جامعة دبلن بأيرلندا عام
١٩٦٨ للحصول على شهادتى الماجستير عام ١٩٦٩، والدكتوراه عام ١٩٧٢ فى الهندسة المدنية-
اختصاص ميكانيك تربة وأساسات، عين مدرسًا فى كلية الهندسة المدنية- جامعة دمشق عام
١٩٧٢ لمادة ميكانيك التربة، ثم أستاذا مساعدًا، افتتح مكتبًا هندسيًا استشاريًا لممارسة
المهنة كاستشارى منذ عام ١٩٧٣، وما زال يمارس الدراسات والاستشارات الهندسية فى مكتبه
الخاص فى حقل ميكانيك التربة والأساسات والهندسة إلى أن رحل، وقدم وشارك فى استشارات
فنية لكثير من المنشآت المهمة فى سوريا، له عدة كتب فى مجال اختصاصه تؤخذ كمراجع مهمة
لميكانيك التربة والأساسات. بدأ فى دراسة التنزيل الحكيم وهو فى أيرلندا بعد حرب
١٩٦٧، وذلك فى عام ١٩٧٠، وقد ساعده المنطق الرياضى على هذه الدراسة، واستمر بالدراسة
حتى عام ١٩٩٠.
وشحرور له مشروع متكامل هدفه إصلاح الفكر
والخطاب الإسلامي. بدأ اهتمامه فى البحث بعد هزيمة العرب عام ١٩٦٧ فى حربهم ضد إسرائيل.
قام بنشر أوّل كتاب له بعنوان الكتاب والقرآن- قراءة معاصرة عام ١٩٩٠. صدرت له بعد
ذلك ٩ كتب أخرى آخرها فى عام ٢٠١٦. أدت منهجيته واستنتاجاته ومواقفه إلى كثير من النقد
خصوصا من قِبَل التيار التراثى فى العالمين العربى والإسلامي.. نتطرق هنا إلى أبرز
ما جاء فى مشروعه الإصلاحي.
أطروحات
جديدة
يبدو أنّ الدكتور محمد شحرور يركّز فى
مشروعه على مشكلة جوهرية تواجه الفكر أو الطرح الإسلامى التقليدي، ألا وهى القصور عن
مخاطبة العالم على أساس تصالحى وتعددي. يُلاحَظُ ذلك فى «مشروع ميثاق العمل الإسلامى»
الذى قدمه عام ١٩٩٩، والذى قَصَد به أن يكون ورقة عمل للحركات الإسلامية للدخول إلى
القرن الواحد والعشرين ووضع فيه ما يراه المبادئ الرئيسية العامة للإسلام.
كما يظهر هذا الهاجس جليًا فى فكرته بإعادة
تعريف المسلمين من جهة والمؤمنين من جهة أخرى، ومن ثَمّ إعادة النظر فى العلاقة التى
يجب أن تربط الطرفين، وهو يريد بذلك جعل الخطاب الإسلامى خطابا عالميا يتسع لغير المسلمين
(بالمعنى المتعارف عليه)، وذلك بتوسيعه لتعريف المسلم ليشمل كلّ من آمن بالله واليوم
الآخر وعمل صالحا، وليس فقط من آمن بالله وبمحمّد كرسول، وهذا التعريف يشمل الغالبية
العظمى لسكان المنطقة العربية والإسلامية التى تشكّل المنطقة المستهدفة من قبل مشروعه
التصحيحي، وبالتالى فإنّه يَحِلّ بذلك مسألة التمييز التى يفرضها الفكر الإسلامى التقليدى
الذى يجعل من أتباع الطوائف والأديان الأخرى مواطنين من الدرجة الثانية منقوصى الحقوق
يجب التعامل معهم والنظر إليهم بشكل آخر من قبل الدولة والمجتمع.
أمّا المؤمن بالنسبة له فهو من آمن بالرسالة
المحمدية وتكاليفها من شعائر الصلاة والصوم والزكاة والحج وتعبّد لله بالطريقة التى
أتى بها الرسول محمد. ويضع مقابل ذلك المؤمنين بالرسالات اليسوعية أو الموسوية أو غيرهما
وطريقتهم فى الصلاة والصوم والحج والتعبُّد. وهذه فكرة مثيرة للاهتمام لأنها تعمل على
القضاء على فكرة المفاضلة بين الناس فى المنطقة العربية والإسلامية بتقعيد عقائدى إسلامي.
فيما يتعلق بالشريعة وتطبيقها فإنّ شحرور
يتخلص من هذه المسألة الشائكة بالقول بأنّ آيات الأحكام فى القرآن قابلة لإعادة النظر
فيها وبأنّ ما كان صالحا لزمن ما لا يصلح لزمن آخر. لا بل يزيد على ذلك ويقول أنّ حاكمية
الله مطلقة لا وجود لها إلا عند الله وأن محاولات تطبيقها ليست إلا نشاطات إنسانية
قد تصيب وقد تخطئ وأنه لا دخل لحاكمية الله المطلقة بها وأنّ كل من يدّعى تطبيقها هو
مُضلل ومُفسد يريد التغطية على القمع ومصادرة الحريات.
وبخصوص الناسخ والمنسوخ، فلا قيمة له عنده
ولا يأخذ بالأحكام المترتبة عليه عند التراثيين. كما أنه يعتبر قصص القرآن المخبرة
عن أحداث حصلت مع الرسل السابقين مثلًا أو عن المعارك التى خاضها المسلمون كبدر وأحد
والخندق وتبوك عبارة عن أحداث تاريخية لا يصح استنباط أحكام منها، ويُدخل فى ذلك آيات
سورة التوبة التى يتخذها الجهاديون كنص حُكمى نهائى قضى بمحاربة الكفار والمشركين إلى
يوم القيامة.
كما أنه يحصر المحرمات فى أربع عشرة مسألة
هي: الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل الأولاد خشية إملاق والاقتراب من الفواحش (الزنا
واللواط والسفاح) وقتل النفس وأكل مال اليتيم والغش وشهادة الزور ونقض العهد وأكل الميتة
والدم ولحم الخنزير والاستقسام بالأزلام والإثم والبغى بغير حق والتقوّل على الله ونكاح
المحارم والرّبا. ويجعل غير ذلك من المسائل خاضعا لإجماع الناس (عن طريق الديمقراطية
والبرلمانات) مع الأخذ برأى علماء الطبيعة (فى مجالات الاجتماع، والإحصاء، والاقتصاد..
إلخ) وليس علماء الدين ومؤسسات الإفتاء. وهذا الموقف يعطى المسلمين حرية أكثر فى حياتهم
وتعاملاتهم مع الناس.
أما بالنسبة للسنة النبوية فهو يعتبرها
اجتهادا مبنيا على الظروف الزمانية والمكانية التى عاش فيها النّبيّ وليست تشريعا إلهيا
ثابتا، بالتالى فإنّ ما فعله النّبيّ ليس حكما ملزمًا كما هو الحال بالنسبة للتراثيين.
ويعتبر هذه المسألة جوهرية لإخراج الفقه الإسلامى من حالة الجمود والرجعية التى يعيش
فيها، حيث إنّ التقليديين يرون أنّ هذه الأحكام التى اتُّخِذت فى القرن السابع فى منطقة
الجزيرة العربية صالحة لكل زمان ومكان وأنّ المساس بها مساس بالإسلام وخروجٌ عنه، كما
أنّه يقول بأنّ الزمن من الممكن تقسيمه زمانيا إلى مرحلتين: المرحلة الأولى هى مرحلة
الرسالات التى انتهت برسالة محمد. والمرحلة الثانية هى مرحلة ما بعد الرسالات والتى
نعيشها نحن. أى إنّ الإنسانية الآن لا تحتاج إلى أى رسالة أو نبوة، بل هى قادرة على
اكتشاف الوجود بنفسها بدون نبوات، وقادرة على التشريع بنفسها بدون رسالات.
وفيما يتعلق بالحدود المذكورة فى القرآن
مثل قطع يد السارق وقتل القاتل فإنه يسميها حدودا عُليا، بمعنى أنه من الممكن الاستغناء
عنها وسنّ أحكام أخرى تتوافق مع تغيّر الظروف والعقل الإنسانى والأعراف العالمية عن
طريق عرضها على التصويت.
أمّا الدولة التى أقامها الرسول فى المدينة
والأحكام التى مارسها خارج الشعائر فإنه يعتبرها إنسانية اختارها محمد النبى وليس محمد
الرسول. بمعنى أنها قابلة للتغيير وفقا لتغيّر الزمان والمكان، وبالتالى فإنّه يزيل
بذلك فكرة قداسة وحتمية إقامة دولة خلافة إسلامية.
وبالنسبة لنظام الحكم وتداول السلطة فهو
من دعاة الديمقراطية والتعددية الحزبية.
وعن حرية الإرادة عند الإنسان يقول شحرور
إنّ تعريف القضاء والقدر تمّ وضعه فى العهد الأموى على أنّ القضاء هو علم الله الأزلى
وأنّ القدر هو نفاذ هذا العلم على أرض الواقع، مثال (سبق فى علم الله أنّ بنى أمية
سوف يحكمون، وبالتالى فلا بدّ أن يصبح حكم بنى أميّة واقعًا). وهو ينتقد ذلك ويقول
إنّ هذا الفهم قد أدى إلى بروز العقيدة الجبرية وانعكاسها بين العامة بالقول بأنّ كل
شيء مكتوب وأنّ عمر الإنسان مكتوب ورزقه مكتوب.. إلخ. ويقدّم لمبدأ الحرية عند الإنسان
كما يلي:
يقول شحرور إن مسألة القدر هى عبارة عن
علم الله الكلّى بالأشياء ووضعه لقوانين تحكمها وليس فَرضُه لأمور اعتباطية يجب التسليم
بها، كما أنّه يقول بأنّ الله يعلم جميع الاحتمالات الممكنة التى من الممكن أن تقع
وأنّ الإنسان حرّ فى اختياره لإحدى هذه الاحتمالات، وبالتالى يكون الإنسان حراّ. كما
أنّه ينفى عِلم الله المسبق باختيار الإنسان لأحد الاحتمالات. إلا أنه يؤمن بالدّعاء
وإمكانية استجابة الله للدعاء وتدخله فى مجريات الكون.
أما القضاء فهو بالنسبة له مُنوط بالإنسان،
حيث إنّ الإنسان هو من يقضى من خلال تعامله مع المقدّرات (القوانين). مثال: (الله وضع
مقدّرات (قوانين) نزول المطر، الإنسان يستطيع إنزال المطر (القضاء) عن طريق معرفته
القوانين الحاكمة لعملية نزول المطر، فالعلماء عندما يقومون بعملية استمطار صناعى يكونون
قضاة ويكون الله مقدّرا (واضعا للقوانين فقط).
انتقادات
تعرّض محمد شحرور إلى كثير من النقد. ومن
الأكاديميين الذين تناقشوا معه فى مصر نجد كلا من الدكتورين عبدالمعطى بيومى (شغل منصب
عميد كلية أصول الدين فى الأزهر) وعبدالصبور شاهين (كاتب ومفكّر)، والدكتورة سعاد صالح
( شغلت منصب رئيس قسم الفقه المقارن فى جامعة الأزهر وعميد كلية الدراسات العربية والإسلامية
فى جامعة المنصورة). أمّا الدكتور القرضاوى فإنه يعتبر فكر محمد شحرور دينًا جديدا
بكل بساطة.
يتركّز أغلب النّقد على مرجعية محمد شحرور،
فهو حتى ولو قال بأنّ مرجعتيه هى القرآن فإنه فى مواطن كثيرة يضطر إلى جعل العقل والواقع
مرجعية لدعم مواقفه. وكان ذلك جليا فى مناظراته مع الدكتورة سعاد صالح فيما يخص فقه
المرأة عندما كانت تسأله فى كل مرة «من الذى قال ذلك؟» فيقول لها إنّ المنطق والعقل
يقولان ذلك.
ولعلّ مسألة المرجعية هى مربط الفرس وهى
أصعب الثوابت التى يريد محمد شحرور اختراقها. ذلك أنّ كل الفكر التراثى مبنى على أساس
مطلق واحد هو أنّ المرجعية ليست للعقل أو المنطق وإنما للنص والحديث ومن ثمّ لفهم الأوّلين،
وهذا هو المبدأ الذى قام عليه تيار أهل الحديث فى القرن الأوّل منذ وقوع الاقتتال بين
المسلمين فى زمن معاوية وعلى والذى يتمثّل بقول ابن سيرين (المتوفى سنة ١١٠ للهجرة)
والمنقول فى مقدمة كتاب صحيح مسلم حيث نجده يقول: «كَانُوا لا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ،
فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَنَنْظُرَ إِلَى
أَهْلِ السُّنَّةِ فَنَأْخُذَ حَدِيثَهُمْ، وَإِلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ فَلا نَأْخُذَ
حَدِيثَهُم». بعيدا عن الخوض فى صحة الخبر من عدمها أو فى حجية كتاب صحيح مسلم، فإنّ
أهل الحديث الحاليّين يتخذونه منهجا، وهذا التيار ما زال موجودا حتى الآن وهو ممثّل
بقوة حاليا فى التيار السلفي، وبناء على ذلك نجد محمد شحرور وغيره طبعا من المجدّدين
مصنفين بكل سهولة فى خانة أهل البدع أو الضالين أو الزنادقة أو غير ذلك من الأوصاف
التى يطلقها التراثيون على كل من تسوّل له نفسه إسقاط مبدأ النص أولا. وبما أنّنا اليوم
نشهد سيطرة شبه كاملة لهذا التيار خصوصا على عقول العامة وطريقة تفكيرهم فإنّ أكبر
تحدّ أو نقدٍ من الممكن توجيهه لشحرور هو أنّه يُسقط فهم الأوّلين للنّص من حساباته.
وقد وُجّه هذا النقد له من قبل كل من الدكتورة سعاد صالح والدكتورين شاهين وبيومى عند
ختام مناظراتهم مع الدكتور محمد شحرور، مما جعلهم فى النهاية ينتصرون فى أخذ المستمعين
من العامة إلى جانبهم وخروج الدكتور شحرور خاسرا. وهذا يؤكده الواقع الذى يقول إنّ
العامة ما زالوا ميّالون لتغليب مبدأ التراثيين حتى الآن.
ومن الأمثلة التفصيلية على الانتقادات
هو قوله بأنّ المحرّمات هى فقط ١٤ وأنّ باقى الأشياء حلال يقيّدها المجتمع. ونأخذ هنا
مثلا المشكلة المتعلقة برجم الزانى أو قطع يد السارق أو لباس المرأة فى الإسلام أو
قدرة المجتمع والدولة على منع التعدّد كونهما عند شحرور يدخلان فى الحلال الذى يقيّده
الناس. لم يكن النقد لرؤية الدكتور محمد شحرور فى التعامل مع هذه الأمور أو رأيه فيها،
إنما كان النقد هو «من أين أتيت بأنّ المجتمع له الحق بالتشريع؟!» هل هناك آية أو حديث
أو أحد من العلماء قال بذلك؟ وهل حكم الناس أفضل من حكم الله؟
هذه الأسئلة تشكل خط الدفاع غير القابل
للاختراق بالنسبة للتيار التقليدى وهم يستميتون فى الدفاع عنها لأنّ قبولهم بما يقوله
الدكتور شحرور وغيره من الحَداثييّن يعنى هدم مذهبهم بالكامل.
بالنسبة لنَقد العَلمانيين (بالمعنى الفلسفى
للكلمة) فإنّهم بالمجمل يعتبرونه مصلحا جيدا وتقدّميا يساهم فى إخراج المتديّنين من
وهمهم، كما أنهم يعتبرونه ومن معه من حداثيّين متديّنين جسرا بينهم وبين العامة، آملين
أن الحداثيين المتديّنين سيقودون العامة إلى الربوبية أو الإلحاد فى نهاية المطاف.