انتشرت في الآونة الأخيرة حالات الانتحار، سواء السقوط العمدى من القطار أو على قضبان السكك الحديدية، أو كالحالة التى أزعجت المجتمع كله، وهى انتحار شاب من فوق برج القاهرة الشاهق الذى يمتد امتداد أوجاع شاب جميل متفوق ينبئ بمستقبل لمهندس تنتظره بلده وأهله!.. ما الذى حدث وتسبب في ازدياد حالات الانتحار؟!..فقد نشر في سبتمبر الماضى بالموقع الإخبارى (فرانس 24)، نقلا عن منظمة الصحة العالمية، أن هناك حالة انتحار كل 40 ثانية، وأن مصر الأولى عربيا طبقا لمعدلات عام 2016، حيث بلغ عدد المنتحرين 3799 حالة.. رغم أن المتعارف عليه أن الدول الأكثر رفاهية، وذات دخل مرتفع يكثر فيها الانتحار.
ومنذ رأينا بأعيننا انتحار الشاب من أعلى البرج، زاد الاهتمام بالقضية.. وخاصة بعد تناثر أخبار تشير إلى زيادة حالات الانتحار..وهو ما جعل القنوات المعادية تستغل تلك الحوادث، وتحاول إلصاقها عنوة بالسياسة حتى تدين مصر!!..ولكن الأهم من دأبهم على تصيد المشكلات وتضخيمها والمتاجرة بها، يجب أن نضع أيدينا على الداء..لذلك يجب أن نسأل..هل أصبح الانتحار ظاهرة في مصر؟..وكيف كان تقدير النسبة في السنوات الماضية؟.. هل النسبة المئوية مع زيادة عدد السكان تعد طبيعية؟..أم زاد العدد؟..ومنذ متى أصبح الانتحار حلا ونحن مجتمع معروفا بالتماسك والتدين؟!..ما من شك أن هذه الظاهرة والعديد من الظواهر السلبية التى جدت على المجتمع هى بسبب إخفاق الثقافة..أين المفكرون والكتاب وأهل الدين والفنانون والعلمانيون؟.. هل حدث انتحار جماعى لعقل وفكر هؤلاء؟.. سبق وكتبت عن أهمية الثقافة كضرورة حياة، لأنها شريك في كل مناحى الحياة، ولكن لا مجيب!..من قتل أحلام وحطم آمال هؤلاء الشباب؟!..ومن المسئول عن الصحة النفسية لشعب تخطى المائة مليون؟!..لماذا تتزايد حالات الإحباط رغم ما يبذله الرئيس من تنمية وبناء وتحديث شامل للدولة؟!..هذا الجانب هو دور شاق على الدولة، تتحمله ومعها المواطنون لبناء مستقبل أفضل..كذلك يحاول الرئيس مخاطبة الشباب والاستماع إليهم من خلال مؤتمرات الشباب.. وهنا يجب أن نتساءل من الشباب الذى يحضر؟..وهل يسمح لهم بمصارحة الرئيس بكل مشكلات الشباب ومعاناتهم؟..وهل تقتصر الدعوة على البعض ولا تتغير دماء من يحضرون تلك المؤتمرات؟..إن الشباب لديه مشكلات حقيقية تولد داخله الإحباط، والذى يعد حالة مرضية معدية وشديدة الخطورة..هل تلك المشكلات هى سبب ازدياد معدل حالات الانتحار؟..أم أن هناك تراجعا في دور الأسرة في التنشئة السليمة، وتراجعا لدور المدرسة المكمل والمصحح لدور الأسرة؟!..هل نهتم في المراحل التعليمية بترسيخ التعاليم الدينية المحفزة للعمل والتعاون والإيثار والبناء المجتمعي؟..هل هناك اهتمام بدراسة قصص الأنبياء لمعرفة معاناتهم وصبرهم على الإيذاء والحرمان وعنف وقسوة المحيطين؟!..نتساءل أيضا عن المفكرين وصالوناتهم وندواتهم الفكرية التى تخلق الأمل في القلوب، وتعلم كيفية اجتياز المحن والعقبات؟!..وأين دور الإعلام بجميع وسائله؟!.. لماذا لا يقوم بتحصين الشباب وتقوية مناعتهم ضد المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التى تواجههم، والإحباط الذى قد يصيبهم، ففكرة الانتحار ليست بالأمر الهين في هوان النفس وضعفها لدرجة أن ينهى الشخص حياته.. إننا في احتياج لوقفة جادة من المجتمع بكل مؤسساته، حتى نعيد الدفء والتضامن والتراحم بين الأهل والأصدقاء وكل أفراد المجتمع.. فإذا تأملنا بعض الرسائل التى كتبها منتحرون، قبل إقدامهم على هذه الخطوة، سنتأكد أن مجرد كلمة أو احتضان وتعاطف كان من الممكن أن تنقذ حياة إنسان.. فعلى سبيل المثال كتب بعضهم: «سأتمشّى وصولا للجسر.. وإذا ابتسم لى شخص واحدٌ أثناء الطريق لن أقفز»..» «كنت أتمنى أن ينقذنى أحد».. «هذه الخطّة ياء.. لم ينفع مع هذهِ الحياة سبعٌ وعشرون خطّة»..«لا تدعوا لي..الله يعرفنى وسيتفهم موقفى جيدًا».. «بعد عام من العلاج النفسي.. قال لى الطبيب: ربما الحياة ليست للجميع».. «أخبروا أمى أننى كنت ذاهبًا لصيد الأسماك وغرقت هناك.. إياكم وإخبارها أننى كنت أكره العالم الذى تعيش فيه».. «أنا لم أكن على قيد الحياة في كُل الأحوال».. «لا أعرفكم جميعًا ولا أنتم تعرفونني.. ولكنى أريد بشدة أن أناشدكم أﻻ تقتربوا من قلب أحد إن لم تكن قلوبكم صادقة.. لا تخونوا العهود..كونوا أوفياء».. وقد كتب الدكتور الفاضل سعد الزنط مدير مركز الدراسات الإستراتيجية وأخلاقيات الاتصال: «الانتحار.. ظاهرة مؤسفة!!.. تعكس خللًا في بنية المجتمع.. وعلى الدولة أن تستمع لنتائج دراسات المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بشأنها وظواهر أخرى ذات صلة»..وهو ما يؤكد أن لدينا الكثير من الأبحاث المتعلقة بهذه الظاهرة وغيرها، في هذا المركز وغيره من مراكز أبحاث وجامعات.. ولكن ينقصنا الاستعانة والاستفادة الحقيقية منها.. لذلك أتمنى أن تخرج دراساتنا التى تقبع في الأدراج والأرفف إلى النور!!..ونستفيد منها ونعالج مشكلاتنا.. وأرجو أن تقوم مراكز الدراسات والمتخصصون على دراسة الظاهرة الأغرب المتعلقة بالانتحار، وهى انشغال الكثيرين في المجتمع بتقييم المنتحر، ومدى كفره أو إيمانه!!.. فالله أرحم بعبيده من البشر، ولا يمكن أن نعرف الظروف والضغوط ولحظات الضعف التى مرت بمن ضاقت بهم الدنيا بما رحبت، وهانت حياتهم على أنفسهم ليتخلصوا منها دون تفكير أو مراجعة للنفس.. وأتمنى أن نرسخ داخل المجتمع ثقافة ألا يتدخل كل منا فيما لا يعنيه!!..حتى لا نظل نولى أنفسنا قضاة وأوصياء على بعضنا البعض!!..وليحاسب كل منا نفسه ونترك محاكمة خلق الله لخالقهم!!