الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الوصية والغزو.. والمسألة المصرية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
المشهد الأول: الوصية
(ليل داخلي - بلدية شالو - غرب فرنسا – ليلة السادس من أبريل عام 1199).. داخل تلك القاعة الملكية وقف الجميع ناكسي الرؤوس إحترامًا لذلك الذي فارقت الروح جسده، تحتضنه تلك العجوز الباكية، لم تعبأ بتلك التشوهات الدموية التي لوثت أعلى صدره ورقبته، لم تكترث لجسده الذي أصبح باردًا كلوح ثلج، تتحسس بأناملها وجنتيه المنتفختين، تتمتم ببعض العبارات الهامسة غير المفهومة كأنها تخاطبه، تعي أنه لم يعد هنا ليشاركها الحديث ولكنها تدرك أنها ستلبي ندائه.
"لقد مات الأسد.. مات الذي قُتل على يد النملة".. بعبارة تقطر دمًا رفعت الدوقة إليانور آكيتاين رأسها عن جثمان وليدها ريتشارد الأول ملك إنجلترا، بشموخ إمرأة لم تنس أنها كانت زوجة لملكي فرنسا وإنجلترا راحت تردد قائلة: "مات من كان يخشي الشرق والغرب سماع صوته، مات من جعل أوروبا كلها تخضع لسلطانه، مات من وحد تلك الأرض تحت راية الصليب المقدسة"، بخطوات ثقيلة تحركت العجوز نحو ذلك العرش الذي يومًا كان يجلس عليه، لم يجرؤ من بالقاعة اعتراض طريقها حتى جلست، بأنامل مرتجفة تحسست سيفه البتار.
رفعت الدوقة إليانور سيف إبنها ريتشارد قائلة، اليوم ندفن ريتشارد، ولكن هذا السيف سيظل شاهدًا على معارك خاضها ليرفع راية أمتنا، راية مقدساتنا، وغدًا ننظر أمر وصيته لاستعادة أورشليم، إقترب جون لاكلاند، شقيق ريتشارد وقد أظهر بعض الحزن منها، كان يدرك أنه اقتنص أخيرًا عرشًا قاتل أخيه يومًا من أجله، واليوم أضحى ملكًا بعد موته، حتى الموت لا يستطيع أن يقف أمام إرادة ريتشارد، سنحقق وصيته يا أمي، وبسيفه الذي اعتاد على مرافقته.
كانت الدوقة إليانور تدرك جيدًا زيف مشاعر جون، كانت تعلم أن ذلك الشقيق الذي وقف يومًا ضد إرادة شقيقه الملك لا يعنيه أمر وصيته، لذا لم تمنحه سيف ريتشارد حينما مد يده ليلتقطه، مكتفية برميه بنظرة عتاب نارية، كاد الأمر يحتدم بينهما لولا تدخل شقيقته جوان زوجة ملك صقلية، ولكنه يا أمي لم يوصي بأي شيء، إنه فقط يقول أن مفاتيح أورشليم في القاهرة، ماذا يعني بذلك؟!، لم تكترث الشقيقة الأخري لينور زوجة ملك قشتالة وطليطلة، لوجود جثمان شقيقها الأكبر فأطلقت ضحكة قصيرة قائلة، ريتشارد لم يُهزم سوي في أورشاليم يا جوان، هُزم على يد ذلك السلطان الذي يحكم مصر، كل رجالنا هُزموا على يد سلاطين القاهرة، ونحن هنا في فرنسا يمكن ان نحقق الكثير لإسقاطهم.
مر عقد ونصف كلمح البصر على موت ريتشارد الأول، مات قلب الأسد ولم تمت وصيته، لم يتجاهلها قادة أوروبا، بل كانت حاضرة في مجمع لاتران الرابع، والذي انعقد في نوفمبر 1215 بدعوة من البابا إينوسنت الثالث في روما، وحضره 71 بطريرك ورئيس أساقفة و412 أسقف و900 رئيس دير وموفدي أديرة، اتفقوا جميعًا على تنفيذ تلك الوصية، ليقوموا بحصار مدينة دمياط، مفتاح مصر البحري، في 27 مايو 1218، وحينما فشلوا طيلة نصف قرنًا كاملة، سعوا للالتفاف بغزو مدينة تونس عام 1270، ولكنها فشلت، وطيلة أكثر من قرنين لم تنجح أوروبا في تنفيذ وصية ريتشارد حتى تم غزو مصر عام 1517 على يد العثمانيين.
المشهد الثاني: الغزو
(نهار داخلي – القاهرة المحروسة – منتصف شتاء 1517 – ليلة ورث فيها العثمانلي ميراث المماليك).. "نبكي على مصر وسكانها وقد خربت أركانها العامرة.. وأصبحت بالذل مقهورة من بعد ما كانت هي القاهرة".. أمام شرفة منزله وقف ذلك الشيخ العجوز، تحدي بجسده الضئيل برودة شتاء تلك الليلة، لم يعبأ بذلك الرعد الذي يهز السماء وكأنها إنفجار بركان ثائر، ولا بخيوط البرق التي تضيء بين الحين والأخر شوارع أظلمت بفعل تلك الغيوم، يراقب بعيون ملؤها الجزع ما آلت إليه القاهرة.
لم يلتفت إبن إياس إلى ذلك الذي يقف خلفه، فعلى رأس الحارة التي يقطن بها تحرك ركب من الخيول والعتاد، يحيط بها عشرات العثمانلية، يقبضون على سيوفهم حذر المباغتة، لم تهتز أبدانهم لبرودة الجو، لم يبالوا بما علق بأقدامهم من وحل أثر إنهمار المطر، أعلى المنازل والبيوت، وقف المصريون، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءًا، يلقون بكل ما يحملوه على جنود راحوا ينهبون ويستولون على كل ما تطوله أياديهم، بالأمس استولوا على القاهرة، واليوم يسلبون غنائمها العامرة.
"هون عليك سيدي".. انتبه إبن إياس إلى خادمة، فقد وقف يراقب هو الأخر ما يفعله جند العثمانلية من تخريب، دون أن يلتفت إليه قال بصوت يقطر ألمًا على ما يراه، كيف أهون على نفسي يا عبدالله وهذا يحدث للقاهرة، تلك المدينة التي ولدت فيها ولم أغادرها طيلة سنواتى السبعين سوي مرة واحدة لأداء فريضة الحج، إنهم يستولون على كل شيء، الأرض والتاريخ والفن، حتى أصحاب المهن والحرفيين، يسوقونهم إلى حاضرتهم في وسط أسيا، ثم راح يردد: "فنوحوا على مصر لأمر قد جرى، من حادث عمت مصيبته الورى.. الله أكبر إنها لمصـيبـة، وقعت بمصر ما لها مثل يُرى".
في كتابه الشهير "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، دون المؤرخ المصري محمد بن إياس الحنفي وقائع أكثر سنوات مصر دموية، وذلك عاث العثمانلية فسادًا في شوارع المحروسة، وتعد شهادة ابن إياس من أهم ما كُتب في هذا الشأن، فقد قال في كتابه أنه لم يقاس أهل مصر شدة مثل هذه، ووصل الأمر لوصفه أنه وقع فيها مثل ما وقع من جند هولاكو في بغداد،، وأنه وقعت في القاهرة المصيبة العظمى التى لم يسمع بمثلها فيما تقدم، لم يراعوا حرمة المساجد فاقتحموا الأزهر الشريف ومسجد ابن طولون والحاكم بأمر الله، بل أنهم أحرقوا جامع شيخو، وخربوا ضريح السيدة نفيسة وداسوا على قبرها.
هكذا كانت النية مبيتة لاقتحام القاهرة وقتل المصريين ونهب خير البلاد، وسرقة منجزها الحضارى، فقد وصف ابم إياس ما وقع للمحروسة بعد سقوط القاهرة قائلا: أن ابن عثمان انتهك حرمة مصر وما خرج منها حتى غنم أموالهم وقتل أبطالها ويتم أطفالها وأسر رجالها وبدد أحوالها، ويقص ابن إياس في الجزء الخامس من كتابه الذى يشبه اليوميات، أن سليم خان، الإمبراطور التركى، الذى اقتحم القاهرة، كان رجلا سيئ الخُلق سفاكًا للدماء شديد الغضب، وروى عنه أنه قال: "إذا دخلت مصر أحرق بيوتها قاطبة وألعب في أهلها بالسيف".
المشهد الثالث: المسألة المصرية
(ليل خارجي - قرية سيلي – مدينة قونيا التركية – 23 ديسمبر 1832 ليلة غابت فيها شمس الآستانة).. "يزيد.. إنهض يا بني.. المعركة لم تنته بعد.. جنودك يحتاجون إليك.. لا تتركهم في المعركة بمفردهم.. اذهب لتثأر لنا".. داخل كوخ صغير على أطراف قرية "سيلي" استلقي يزيد فوق صندوق بدائي من الخشب فاقد الوعي، يُحيط صدرة بقطعة كبيرة من القماش الملطخ بالدماء، يسيل العرق بغزارة على جبينة ووجنتيه، إلى جواره فتاة صغيرة انهمكت في تضميد جراحة، لم تبالي بما يقول، فقط يكفيها إنها علمت إسمة، "يزيد".
لم يكن يزيد مُغشيًا عليه كما اعتقدت "أتالا"، تلك الفتاة التي تضمد جراحه، إبنه حطاب القرية الذي وجده مُصابًا على مقربة أميال من سهول هضبة الأناضول الوسطى، كان يشعر بكل شيء حوله، أدرك منذ الوهلة الأولى إنه أصيب في تلك المعركة الحامية، التي دارت منذ يومين بين الجنود المصريين والعثمانيين أسفل جبال هضبة الأناضول الوسطى شمال مدينة قونيا، تذكر "يزيد" كيف حُوصر في الظلام أسفل تلك الجبال بمفرده، وكيف سقط في كهف سحيق عقب اصابته في صدره، وكيف عانى كثيرًا ليخرج من الجانب الأخر لساحة المعركة، قبل أن يسقط مُغشيا عليه تذكر ذلك الحطاب الذي عثر عليه وراح يُسعفه.
"اريد ماء.. أشعر بالظمأ.. أريد ماء".. اقتربت "أتالا" من "يزيد" قائلة بعربية ذات لكنة تبدو أنها لفتاة أجنبية، حسنًا سأحضر لك الماء، شعر يزيد بالقلق كون أنه يعلم جيدًا أنه لم يبتعد كثيرًا عن الأراضي السورية، لم يكن يدرك انه يوجد داخل القرية الوحيدة التي تتحدث اللغة اليونانية، وأنهم ينتمون إلى الجنس الإغريقي، ويتعايشون سلميًا مع الأتراك، فمنذ ثمانية قرون أوصي جلال الدين محمد الرومي الأتراك أن لا يضروا أهل تلك القرية أبدًا، خاصة بعد ان بني مسجدًا صغيرًا داخل دير القديس تشاريتون بالقرية، لذا تمكنوا من الحفاظ على لغتهم اليونانية.
تلك هي المسألة... المسألة المصرية التي كثيرا ما كانت تطفو على السطح منذ أن ظهر إلى الوجود شخصية عظيمة مثل "محمد على باشا" إلى سدة الحكم في 1805، فبعد ما يقرب من ثلاثة عقود من أفول القاهرة نتيجة سقوطها على يد ذلك المستعمر، تعود من جديد لتُظهر قوتها، قامت بطرد "نابليون بونابرت" وجيوشه، أقوى قائد عسكري في أوروبا منذ سنوات قليلة، المسالة المصرية التي ظهرت في "نافارين" اليونانية و"سيفرز" الفرنسية و"دار مشتادت" الألمانية.
بدأت "المسألة المصرية" باعتبارها الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك الإمكانيات البشرية والعقلية والحضارية، وقادرة على قيادة العالم العربي من المحيط إلى الخليج، بمجرد أن شعر الغرب بخطورة جيوش "محمد على باشا"، وذلك إثر تفكيره تكوين دولة عربية تقوم على أنقاض الدولة العثمانية يحكمها هو وأسرته من بعده.
وفي 1831 وبعد أن رفض السلطان العثماني منح "محمد على باشا" منطقة الشام كمكافأة على مساعدته في حربه ضد الثورة اليونانية، مكتفيا بمنحة جزيرة كريت فقط، انطلقت الجيوش المصرية هاجمت الجيوش التركية في بلاد الشام بقيادة إبراهيم باشا، والذي استطاع أن ينتصر على الأتراك في غزة ويافا وحيفا والقدس وعكا فاستولى على فلسطين وصيدا وصور وبيروت وطرابلس فاستولى على لبنان، وحمص ودمشق وحماة وحلب وممر بيلين جنوب الأسكندرونة واستولى على كل الشام، ثم قفز الجيش المصري إلى أرض الأتراك نفسها، فاستولى على أضنة وطرطوس وجبال الأمانوس وأوروبا وعينتاب ومرعش وقيصرية وقونية وكوتاهيه وكان على مشارف إسطنبول.
وبعد 23 معركة من الهزيمة على يد الجيش المصري اضطر الأتراك للتحالف مع الروس لحماية الأستانة، فقد تدخلت الدول الأوروبية العظمي ممثلة في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وبروسيا "ألمانيا حاليا"، ليجبروا العثمانيين على معاهدة كوتاهية 1833 كهدنة حرب يبني فيها جيشه، تضمنت ثلاث بنود رئيسية، أولها تنازل السلطان العثماني لمحمد على عن مصر، وثانيها تنازل السلطان العثماني لمحمد على عن الشام، ثالثها تعيين إبنه إبراهيم باشا حاكما على إقليم أمة.
لقد أقلقت انتصارات محمد على دول أوروبا، كما أزعجها وحدة البلاد العربية في ظل قيادة مصرية، لأن ذلك سيهدد مصالحها في المنطقة، ويفوت عليها فرصة اقتسام أملاك الدولة العثمانية، لذا رأت ضرورة إضعافها، فقامت بريطانيا بحث السلطان العثماني وتحضيره لإستعادة أملاكه، وخاض السلطان العثماني حربا ثانية مع إبراهيم باشا في نصيين في 25 يونيو 1839، ولكنه انهزم هزيمة ساحقة، لدرجة أجبرت الأسطول العثماني على الإنضمام إلى مصر، وهكذا رأت بريطانيا أن طريق الهند أصبح مهددًا بالخطر، فسارعت دون أن تطلع فرنسا على نواياها، وعقدت مع كل من بروسيا والنمسا وروسيا مؤتمرا انتهى بمعاهدة لندن في 5 يوليو 1840، لتنتهي "المسألة المصرية"، فقد ضمنت الدول الأوروبية سلامة الدولة العثمانية، وبالتالي سلامة مصالحها الاستعمارية في بلاد آسيا وأفريقيا.