السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

روبوتات ضد الإنسانية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حين أصيب الطفل يانج بنزلة برد، كغيره من الأطفال في العاشرة من أعمارهم، ذهبت والدته للمدرسة تطلب منهم الإذن لغيابه. فوجئت والدته بأن تلك المدرسة الحكومية في طوكيو ترفض أن يتغيب ابنها حتى لو كان مريضًا. أوشكت الأم أن تعلن عن غضبها بانفعال، إلا أن مديرة المدرسة هدأتها مبتسمة، أخبرتها أن يانج لا يمكنه أن يتغيب، كما لا يمكنه أن يحضر أيضًا.
تلخصت القصة في أن المدرسة بدأت بتطبيق نظام سيعم اليابان كلها في وقت قصير أسماه البعض «الروبوت المتعلم». يهدف هذا النظام إلى أن يمنع الأطفال من فقدان أية معلومة أو حتى أية لحظة تفاعل أو ترفيه في اليوم الدراسي حتى لو حالت بينهم وبين الحضور ظروف خاصة قاسية. تطور الأمر الآن وصار لكل طالب روبوت في هيئة إنسان آلى يشبه الإنسان. متى ما تغيب. يجلس الروبوت مكانه في الفصل الدراسي. عليه فقط أن يفتح شاشة صغيرة على جهاز الكمبيوتر الخاص به، أو أية محطة طرفية أخرى مثل شاشة هاتف محمول، يحرك رأس الروبوت ليرى ما يريد أن يرى. يرفع يده اليمنى ليسأل عما يريد أن يسأل عنه، ويسجل المقاطع التى يريد تسجيلها من الشرح أو استفسارات زملائه. ويقدم من خلاله الفروض والواجبات المطلوب منه أداؤها مسبقًا كغيره من الزملاء. 
دفع هذا الأمر الكثيرين للتساؤل: (هل تعد هذه مقدمة لأن تصبح المدرسة علاقة بين الطالب والروبوت؟). أى أن يصبح من حق كل طفل أن يسجل إلكترونيًا في مدرسة ما مع مجموعة من الزملاء ويمثل كل واحد منهم روبوتًا يحتل حيزًا ماديًا في الفصول، ولكنه يقدم لك شكلًا غريبًا من التفاعل الافتراضي. فهل هذا يعد نوعًا من الواقع الافتراضي؟. ولكن ماذا تفترض هنا؟ إن الحقائق موجودة لكن بشكل نصفي. فالروبوت موجود. أصاب هذا الأمر العديد من متخصصى التواصل الإنسانى والتكنولوجيا بالارتباك. فها هو الإنسان مرة أخرى يبتعد بشكل جديد عن الاندماج المجتمعى مع الجماعات الإنسانية. لا سيما وأن صيحات الاغتراب تتعالى، والشكاوى من الإحساس بالغربة تتزايد، خاصة في السنوات المبكرة من الشباب. هذه الشكاوى يجب ألا تُقابل بالاستجابة لها بتصميم علب منعزلة يحيا فيه مشتكو الوحدة. 
لطالما مثلت المدرسة مجالًا أساسيًا لتكوين شخصية ترى المجتمع وتتفاعل معه وتحقق له الخير وتأخذ منه الخير، كل ذلك إلى جانب أن التعلم في مجال اجتماعي ينتج ناتجًا تعليميًا أكثر كفاءة في معظم الأحوال كما أفادت نتائج الدراسات في هذا الصدد. يتعلم الإنسان الوحيد العلوم وحيدة، لذا يتعلم أسرع لكنه لا يندمج بثمار علومه مع ما يفيد المجتمع أسرع. لا يعنى ذلك أن لكل قاعدة استثناءات. البشرية دائمًا تأتى في شكل وأداء استثنائيين، إلا أن الأغلبية والعموم تحتاج للاختلاط حتى تستطيع أن تعيش في عالم يتسع للجميع. 
ثم كيف سيحقق هذا الروبوت للطفل ممارسة الأنشطة الفنية وسط مجموعة تعزف معًا وتغنى معًا وترقص معًا. إن مجرد نقل المعزوفات عبر الشاشات الصغيرة لا يأتى بنتائج العمل الجماعي، كما ثبت للجميع في كل تجارب الآداء. إن الإبداع الجماعى لا يقل أهمية عن الإبداع الفردي. لأن الله خلق كل شيء على الأرض ليمارس دورًا لا يمكن أن يمارسه شيء آخر، وليحظى بأهمية لا يمكن أن تكون لشيء آخر. 
سيقضى هذا الروبوت ببساطة على كل أحلام ازدهار فرق رياضية مدرسة قوية في الألعاب المختلفة، فكيف يمكن أن تقذف بالكرة في جهاز تابلت لتصل إلى يد آخر عبر جهاز تابلت آخر؟ وقس على الرياضة الكثير من الأنشطة الأخرى منها تناول الإفطار معًا، وهو أمر لا يعتبر رفاهية أبدًا. يكفى أن الإيطاليين يخافون منذ ما قبل الميلاد من تناول الطعام وحدهم، ومن أشهر أمثالهم الشعبية حتى اليوم: «من يأكل وحيدًا يموت وحيدًا». 
لا أدرى لما أصابتنى حالة لا أستطيع وصفها بالجيدة أبدًا حين سمعت خبر الطفل يانج في اليابان، وتابعت تطورات الخبر المختلفة. أنا أحب التكنولوجيا، وأعشق تطوراتها، وأدعى أنها استطاعت أن تحرمنى من رومانسية التعامل مع الورق باللمس تمامًا، حتى أننى صرت أشعر بضوضاء عارمة حين أحاط بكمية كبيرة من الورق تدفعنى للخروج من المكان كاملًا بعد وقت قصير. إلا أن هذه التكنولوجيا يجب أن تعرف حقوقها وواجباتها كما يعرف البشر حقوقهم وواجباتهم. تذكرت فورًا ذلك الفيلك الذى ثارت فيه الروبوتات على البشر وقررت أن تحاربهم وأن تأخذ أدوارهم في الحياة، وكيف لم يجد المؤلف ولا المخرج نهاية سوى قطع الطاقة عنها والتخلص منها في نهاية الفيلم. حقًا أنا لا أهدف لقطع الطاقة، لكننى أريد أن تظل الإنسانية حرة طليقة لا تعتدى على أحد ولايعتدى عليها أحد. 
يحفظ عنى تلاميذى جملة أكررها دون قصد كثيرة: «لا يوجد على الأرض شيء يستحق أن يحرمك من أن تكون سعيدًا مستمتعًا وأنت تشرب القهوة في هدوء ما بعد زحام تفاصيل اليوم». أكررها كل مرة بصياغة مختلفة. لكننى أعنى كل مرة أن الحياة من حقها أن تزدحم وأن تتطور وتتغير، ولكن من حقك أن تستمتع بإنسانية مندمجًا اندماجًا مباشرًا في أمور إنسانية كثيرة كى تكون سعيدًا في حياتك. أحبوا الحياة أكثر.