حين تقترب المناسبات يصبح الناس في أمس الحاجة لتقديم المساعدات، يزيد اتساع أحلامهم وسقف توقعاتهم لشكل الاحتفال الذى يمكنهم تقديمه، وتكبر رغبتهم في الحصول على السعادة، حينها يتدخل مصممون للسعادة في تشكيلها وتضخيم حجمها وتقديمها للأفراد مرة أخرى كما يُتوقع أن يحبها الجميع، ومن أول تلك التصميمات تصميم أسعار جديدة للمواد التى تدخل في بناء الاحتفالات. ربما كانت «الجمعة السوداء» من أهم أشكال تلك التصميمات التى انتشرت في العالم كله انتشارًا كبيرًا. فمن الطبيعى أن تنتشر العروض الخاصة كلما زادت أزمة اقتصادية أو طالت فترة إقامتها في مكان ما، فما بالكم بعالم يعانى اقتصاديات تعانى هى الأخرى مشكلات متعددة؟
يحتاج الأشخاص قبل المناسبات الخاصة لمن يساعدهم، لا سيما وأن الأبحاث ترى أن أغلب الأفراد لا يجيدون التعامل مع الادخار بكفاءة كبيرة تلبى مطالبهم، لذا مهما ادخر ووفر فإنه سيحتاج للمساعدة وبشكل كبير. وتلك هى الفكرة الأساسية التى نشأت عليها ومنها «الجمعة السوداء». إن هذا اليوم هو الذى يأتى عادة بعد عيد الشكر في الولايات المتحدة الأمريكية، ويأتى عيد الشكر عادة في نهاية شهر نوفمبر، ويمثل ذلك إطلاقًا رسميًا لموسم شراء هدايا عيد الميلاد في العالم كله. لا تقدم المتاجر فقط عروضًا خاصةً في الأسعار، بل إنها تزيد من مدة عملها، حتى أنها قد تفتح أبوابها للزوار في الرابعة صباحًا في بعض الأسواق، لذا من الطبيعى أن ترى طوابير من الزبائن منذ الليل المتأخر على أبواب المتاجر ذات الماركات المرتفعة الأثمان حين تعلن الفتح المبكر في الجمعة السوداء متحدين البرد، وأحيانًا المطر، وفى حالات قليلة الثلوج أيضًا. كل هذا من أجل شراء سترة أو حقيبة أصلية أو حتى ساعة يد مقلدة بعناية. يبدأ المنتظرون في الطوابير بالتقافز والركض والتدافع حين تفتح المتاجر أبوابها في الساعات المبكرة من الفجر، يحاول كل منهم الحصول على أكبر قدر يمكنه الحصول عليه من هدايا رأس السنة بالخصومات المميزة، وهو مشهد تعشق وسائل الإعلام رصده كل عام في دعاية مثيرة للمتاجر التى تستضيف تلك المعارك الزبونية المتوقعة. وتغير المتاجر الإلكترونية من اسم السلعة التى تحظى بالخصم كل ساعة حتى تحفز الزبائن على متابعتها وعدم الغياب عنها. لكن ما أصل تلك الجمعة السوداء؟ وما الذى قلبها وبيض وجهها لتصبح بيضاء؟
أطلت على العالم الجمعة السوداء الأولى عام 1869م، وهو العام الذى وقعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية في عز الأزمة المالية التى ضربت اقتصادها، ودخل العالم في الكساد الكبير، فلم يعد هناك شراء للسلع حين غاب المال عن جيوب الزبائن. فلجأ التجار للحيلة البشرية الترويجية الأقدم في التاريخ من أجل تحريك المال والبضائع في الأسواق وهى «التخفيضات والخصومات».
يرى البعض أن إطلاق تسمية «الجمعة السوداء» على هذا اليوم يرجع للعاملين بشرطة فيلادلفيا عام 1960م، في محاولة منهم للتعبير عن الفوضى والازدحام والاختناقات المرورية وطوابير التدافع وبعض حالات تبادل العنف من أجل الوصول إلى السلع المخفضة في ذلك اليوم، لذا كان من وجهة نظرهم «جمعة سوداء» بتفاصيلها غير المفضلة وغير المريحة. ترى آراء أخرى أن تسميته ترجع لتسويد دفاتر حسابات المتاجر في ذلك اليوم، إذ يُستخدم الحبر الأسود لتسجيل الأرباح والحبر الأحمر لتسجيل الخسائر في دفتر حسابات الأرباح والخسائر (اليومية الأمريكية)، وكنتيجة لتحقيق أرباح كبيرة في ذلك اليوم حيث تمتلئ الدفاتر باللون الأسود تم تسمية يوم الجمعة تلك بـ «الجمعة السوداء».
تغير الأمر حين انتقل للعالم العربى لطبيعة شعوبه التى تعتنق أغلبها الدين الإسلامي، فحين أطلق بدايةً كان عبر بعض المتاجر الإلكترونية على الإنترنت التى توجه خدماتها للزبائن في المنطقة العربية، عام 2014م وسموه «الجمعة البيضاء» نظرًا لحب المسلمين ليوم الجمعة ورؤيتهم لمكانته الدينية المميزة لديهم. خرجت علينا بعض الصيدليات المصرية تحديدًا هذا العام بتسمية جديدة لهذا اليوم لم تورد لها تفسيرًا، وهو «الجمعة البرتقالية» وسط دهشة الزبائن الذين لم يقصروا في استغلال عروضها.
أصبحت «الجمعة السوداء» موسمًا ليس فقط لبيع وشراء السلع المخفضة، بل أيضًا لظهور خبراء تسويق مشهورين ينتظرهم الناس قبل النزول لممارسة الشراء، أو قبل الدخول للمواقع الإلكترونية. يقدمون لهم النصائح والتحذيرات مما قد يقع بهم وسط هذا الزخم من التسوق. وكانت النصيحة الأكبر التى خرج علينا بها داكني، خبير التسوق الإنجليزي، الذى ينتظره المتسوقون كل عام، احذر السلع المخفضة للغاية لأنها لا شك مصابة بعطب ما، إذ لا يعقل أن أعطيك ما أبيع مجانًا تقريبًا، وسرت هذه النصيحة في الأسواق الإنجليزية سريعًا، لذا كان هناك كساد في بيع السلع التى تنخفض قيمتها كل عام حتى تطال الخصومات 90% من قيمتها الأصلية، بعد أن كانت هى الأكثر مبيعًا في الأسواق.
تظهر أيضًا حالات طوارئ من جرائم إلكترونية تنشط كل عام في هذا الوقت، لعل أهمها سرقة الأموال من بطاقات الائتمان التى تُشترى بها السلع عبر الإنترنت، على الرغم من كثرة التحذيرات التى تطلقها الجهات المسئولة من استخدام بطاقات ائتمانية، خاصة بذلك اليوم على حدة، وليست مستخدمة قبل ذلك اليوم ولا تستخدم بعده.
إن هذا الهوس الشرائى المرتبط بـ«الجمعة السوداء»، حين تخرج من الصندوق، تراه قدرة من البشر على الاحتفال حتى حين لا يملكون ما يحتفلون به. يقدم البشر صورًا مختلفة من نزعتهم للاحتفال على طريقتهم، ويعتقدون أن الحياة تستحق أن تدخل في خطط مختلفة من أجلها كى تصبح أنت أسعد. إنه إيمان بالسعادة في هيئة «سلعة مخفضة».